كانت كلمة تحمل عمق المسئولية وتدلل على صدقية القول، فالحياة تقاد بالمصارحة لأجل البناء، وما أجمل المصارحة عندما تعمد إلى مسح دمعة يتيم هنا أو فقير هناك... مصطفى أمين في كتابه القيِّم «تحيا الديمقراطية» يقول فيه كلمة ذهبية لا يعرف قيمتها إلا رجل وُلد من جروح المعاناة وعاش أقبية الحزن وحفر ذات يومٍ ثقبا في جدار الحزن والعتمة، كي يخلق إضاءة أو ربما ينفتح على شمس مأسورة وسماء ملبدة بالغيوم، قال مصطفى أمين: «ليس النقد دليلا على الهدم وليس التصفيق دليل البناء».
كثيرون هم الذين عاشوا بين بؤس الغربة ووجع الترحال كالبياتي ومظفر النواب وناجي العلي وغسان كنفاني، حزموا أمتعتهم ذات يوم فهاجروا كي يترافعوا عن الحقيقة الإنسانية، عن الإنسان واحترام الإنسان، ومبادئ الإنسان، أناس ملتهم المنافي واهترأت بين أيديهم آلاف من صناديق الثياب والأمتعة التي حزموا فيها طويلا لباس الترحال المتكرر، حتى حفرت ملامح أناملهم على مقابض أمتعتهم لكثرة سفرهم، فهم البدو الجدد للقرن العشرين، وعلى طريقهم آلاف من السائرين.
لقد تناولت هذا الأسبوع صورا شتى للجامعيين والجامعيات الذين بقوا سنين من دون وظيفة، ناشدنا كثيرا وطرحنا كثيرا ولن نمَلّ، لأن قضية الجامعيين العاطلين قضية وطنية يجب أن ندعمها حتى نصل إلى شاطئ آمن، قد يكون هناك بطء وعراقيل ولكن اليأس والإحباط والبؤس يجب ألا يمنع أي جامعي من المطالبة بحقه والحصول على عمل.
قبل أيام أرسل إليّ جامعي قصاصة لإعلان نشر في نشرة إعلانات محلية لشركة إعلانية، والخبر بقدر ما كان مضحكا فقد كان مبكيا، لأنه يحكي عن انخفاض قيمة الخريج الجامعي وذكرني ببعض الشكاوى التي رأيتها قبل عام من خريج آداب بكالوريوس يعمل حفار شوارع، وبمهندس (من بوري) يبيع ملصقات في مكتبة. الإعلان يقول مناشدا: «فرص عمل للطلبة في السعودية. توجد فرص عمل لطلبة الثانوية والجامعة للعمل بالخبر أو الدمام لمدة شهرين (بيع ذرة من خلال عربات في المجمعات)»، ويقول الإعلان: «الراتب 150 دينارا، إضافة إلى سكن ومواصلات». بالطبع الإعلان نسي أن يضع شيئا من التشويق على طريقة «جربوها ستعرفوها» أو من قبيل «لا تفتك الفرصة فهي تمر مرّ السحاب!».
إنها حقا من الكوميديا السوداء تعكس الواقع بما يعيشه الجامعي من ندوبٍ وحزنٍ، وهناك من يقول: لا توجد بطالة، بل باحثون عن عمل! ألا ترون أنها قسمة ضيزى لكل من عاش على قبح الكلمة وامتهن إباحية الحرف، لكننا لا نقول إلا ما قاله أديبنا الكبير محمد الماغوط وهو يذرف دمعا لهذا العالم العربي الموبوء: «كاد القلق يوزعني أشتاتا، لأن قدمي خسرت نعالها إلى أن رأيت منذ يومين رجلا بلا ساقين»، وقديما قيل: «والجرح يسكنه الذي هو آلمُ». ويقول ختاما: «أمام حاجز أمني طلبوا من أبي بطاقة الهوية فقدم فاتورة الكهرباء!». وتلك هي مفارقات الحزن في عالمنا العربي، جامعي يبيع ذرة وآخر يعمل حفارا، هل هذه سوداوية، أم هو الواقع وألم الحقيقة؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ