العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ

قراءة في المشهد السياسي البحريني

محمد العثمان Mohd.Alothman [at] alwasatnews.com

لكي نفقه واقعنا يجب علينا أن نحيط علما بأن التحولات السياسية ومراحل المخاض التاريخية التي تمر بها الأمم والشعوب، تتجاذبها تيارات فكرية رئيسية مختلفة (تيار التجديد السريع الثوري، وتيار محافظ متشبث بما هو موجود على أرض الواقع، وتيار وسط توفيقي بين التيارين) وهذا الأخير يحاول التوفيق بين ما يطرحه تيار التجديد السريع الثوري وتيار التقليدية المحافظة، وإذا كانت ولادة التيار الوسطي جاءت من الحاجة إلى رأي توفيقي بين الإثنين، فإن الديمقراطية لا حد لها في عملية التوالد والتكاثر المطردة للأفكار والرؤى والتيارات السياسية، ولذلك نجد أنه من رحم هذه التيارات الفكرية الثلاثة تتوالد بعض الأطياف التي تأخذ من تيارين أو أكثر، وكل تلك التيارات المتوالدة تعتبر جهات فرعية، بالنسبة إلى التيارات الثلاثة الأصلية.

وبوسع القارئ أن يتجول في الساحة البحرينية، ليرى تلك التيارات الرئيسية وكيف توالدت بطريقة ديمقراطية «دستورية شرعية» وانتجت هذا الكم من التيارات المختلفة، وبيان ذلك في وجود تلك الجمعيات المختلفة وغالبيتها لا تختلف عن بعضها بعضا سوى في جزئيات بسيطة، وبطبيعة الحال يجب الإيمان بادئ ذي بدء «إن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية». وسأتعرض للتيارات الثلاثة وما تواجهه من عقبات تحول دون تحقيق طموحاتها، أو المحافظة على مكتسباتها، كل ذلك دون أن أعطي رأيي (الخاص) في أي منها، وسأحاول قدر الإمكان أن «لا أضع إبهامي» مرجحا كفة أي من التيارات الفكرية الثلاثة؛ وإن كنت لا آمن على نفسي من ذلك!

وقبل الشروع في قراءة الساحة السياسية بودي ان أشير إلى أنه ليس مقصودا من هذا المقال جمعية معينة أو شخص معين، بقدر ما المقصود هو معرفة الأفكار التي تموج في الشارع السياسي، وسأتطرق لها على انها أفكار محافظة وثورية وتوفيقية، وسأرتكز في هذه القراءة على قضيتي «حوادث شارع المعارض» و«حيازة السلاح»؛ محورين للقياس في معرفة كيفية اتخاذ تلك التيارات مواقفها السياسية وطريقة تعاملها مع الحوادث.

فكر التيار المحافظ

يحاول هذا التيار أن يتشبث بما هو قائم مرغبا فيه ومحذرا في الوقت ذاته من إنفراط السبحة أو العقد، ومن ثم الإنفلات السياسي والذي - بحسب تصور أصحاب هذا الفكر - سيجر على البلاد المآسي وعلى العباد الويلات، وهذا التيار يجد الدعم من جميع المشارب ولا يرتبط بدين أو مذهب بقدر ما يرتبط بمصالح فئوية أو طبقية، أو بتعبير أدق مصالح آنية شخصية نفعية أكثر من ارتباطه بأية ملة، وهذا التيار يحارب التجربة الوليدة بكل ما أوتي من قوة، ويصور أي حدث - وإن كان عابرا أو عرضيا - على أنه من «ويلات» و«مؤرقات» التغيير نحو تأصيل حكم القانون والدمقرطة وحرية الرأي والتعبير، فكلما جد شيء في الشأن العام حاول التيار المحافظ توظيف جميع الأدوات لصالحه، ولصالح دعوته في المحافظة على مكتسبات معينة والتمسك بما هو قائم، بل حتى شاهدنا مؤيدي هذا التيار وهم يحاولون استثمار «حوادث شارع المعارض» وقضية «حيازة السلاح» وما تم من تضخيمهما للحدث، ومثل تلك الوقائع يحاول «التيار المحافظ» أن يستثمرها وما يخدم أهدافه، فيروج أنصار هذا التيار وبفلسفات مكشوفة من مثل: إن الأمن والاستقرار أولا، وإن مواد دستورية يكون مكانها «الرف» حينما يتعلق الأمر بالأمن، بل وأكثر من ذلك فإنهم يطالبون بمصادرة حرية التعبير إذ يجب أن توضع في «الثلاجة» حينما يتعلق الأمر «بالسياحة الجنسية» على اعتبار ان الاقتصاد الذي هو عماد المملكة قائم على تلك السياحة، وقد نجح هذا التيار في زعزعة الثقة عند البسطاء من الناس - بعض الوقت - وخلق حال خوف من المستقبل المدقرط إلا أنه وبفعل تراكم تراث ذلك التيار، والغثائية التي كان يعلبها ويقدمها للجماهير، فإن تلك - الجماهير- سرعان ما استعادت وعيها متأملة واقع حال الدول المتقدمة، وتطبيق تلك الدول للقانون وممارسات أفراد شعوبها للديمقراطية وسيلة لمحاربة الفساد والمحسوبية، والرقابة على أعمال الحكومات والمؤسسات ذات العلاقة بالمواطن وموارد الدولة.

ومن المآخذ على أصحاب هذا التيار أنهم يتحركون وفق رغباتهم الشخصية متخطين مصلحة الجماعة، غير ناظرين لغيرهم من تيارات فكرية إلا بنظرة استعلائية، ويعزوا «البعض» أسباب ذلك إلى البيئة التي عاشوا فيها وتمرغوا في نعيمها، فهم يتصورون أن كل ذلك سيسلب منهم، بمثل تلك الاصلاحات، متناسين أن ما هم فيه الآن محفوظ دستوريا من ضمن الحقوق الخاصة للفرد؛ وذلك إن هم أخذوه بالقانون، أما إن كان غير ذلك فعلى دنياهم السلام، وللإصلاح ضريبة من يدفعها إن لم يدفعها هؤلاء؟!

فكر تيار التجديد السريع «الثوري»

بعد أن رأينا طريقة وأسلوب «التيار المحافظ» ومعرفة أنصاره وطريقة تعاملهم مع الحوادث والمعطيات السياسية، وكيفية تفسيرهم للحوادث، نعرج على فكر تيار التجديد السريع «الثوري»، الذي بطبيعة الحال هو في أحد أركان نشأته نتاج ممارسات «التيار المحافظ»، إذ إن التيار المحافظ لم يأخذ تلك الصفة إلا لأنه كان مهيمنا على الساحة وله مكتسبات يريد الحفاظ عليها ولذلك أطلقنا عليه المحافظ؛ وقطعا لا نعني به «التيار الديني» إذ بينا عناصر تكوينه فيما سبق، وتيار التجديد السريع «الثوري» يتسم تحديدا فيما يخص النزر اليسير من القوانين والمواد الدستورية، وهو جذري كذلك بالنسبة إلى غيرها من القوانين والمواد، ومن رؤى هذا الفكر أن التطورات نحو دمقرطة المملكة يجب أن تكون سريعة وجذرية، ولو أدى ذلك إلى صدام وتفتت أهلي، فهو يمثل بسطاء الناس - حسبما يعتقد أصحابه - والبسطاء هم الغالبية العظمى من البشر؛ ولذلك فإن الحقوق المدنية والدستورية يجب أن تأتي دفعة واحدة، والأمر ينسحب على التعديلات الدستورية إذ يجب أن تكون متوافقة والاتفاقات والمعاهدات الدولية حرفيا، وإن الغيبة الطويلة للحقوق الدستورية للمواطنين تحتم التجديد السريع والجذري، والتركة الثقيلة التي عانت منها البلاد توجب استصدار القرارات الثورية لمعالجتها، هذا ما تنضح به أفكار ذلك التيار.

ويتناسى أنصار هذا الفكر أنهم دائما وأبدا يرددون «التركة ثقيلة» و«تركة الماضي» فنذكرهم بأنه إذا كانت «التركة ثقيلة» فهل نستطيع اجتثاثها وجذورها بالسرعة التي تطلبونها؟! أليست الشقة بعيدة بين المطلوب والممكن؟!

وانصار فكر التجديد السريع «الثوري» وصل بهم الحال إلى مقاطعة الانتخابات - لست أعني الجمعيات المقاطعة إنما هناك شريحة أخرى غير منتمية سياسيا أيضا قاطعت - وهؤلاء يحاولون - كما هو حال نقيضهم التيار المحافظ- استثمار الحوادث وتوظيفها وما يدعم وجهة نظرهم، كحوادث «شارع المعارض» وقضية «حيازة السلاح»، والتي تعاملت معها بعض التيارات بصورة انتقائية لتقديم فروض الولاء والتراكض العمياني خلف ترهات وأوهام لم تثبت قضائيا، أو تعاملت معها بأحكام مسبقة، ما أعتبر تهيئة للتأثير على قرار السلطة القضائية، ويصور تيار التجديد السريع «الثوري» أن ذلك يعتبر إيذانا بالعودة إلى المربع رقم واحد، بالاستدارة على القانون و«تفسيح» المواطنين في جولة دستورية لا طائل من ورائها! وهنا بودي أن أشير إلى أن أسلوب عرض القضيتين يتنافى مع أبسط اللوائح القانونية والتي تقول: إن المتهم بريء لحين تثبت إدانته، وكذلك حيث اننا في البلاد العربية يكون من المعيب والمؤذي للفرد أن يتهم إذ «إن المتهم فينا مجرم لحين تثبت براءته»، وحسنا فعلت احدى الصحف المحلية حين أحجمت عن كتابة الأسماء كاملة واكتفت بالرموز، وحسنا فعل «بعض النواب» بتقدمهم بمشروع إضافة فقرة للقانون تمنع نشر صور واسماء المتهمين لحين أن ينتهي القضاء من النظر في القضية المعروضة أمامه.

نعود إلى فكر تيار التجديد السريع «الثوري» والذي يحاول أنصاره تثبيت أية مخالفة وتصويرها على انها تراجع وانتكاسة وعودة إلى الوراء، ويحاول أيضا أفراد هذا التيار اثبات المخالفات ولو كانت صغيرة جزئية، ولا تعدو تلك المخالفات كونها شخصية أكثر منها رسمية صادرة عن جهات معتمدة في المملكة، ويعتبر أنصار هذا التيار تلك المخالفات مؤشرا إلى عدم جدية التعامل القانوني والدستوري السليم من قبل مختلف السلطات، وإذا جاز لنا التعبير فإننا نعتبر هذا «الإغراق في الجزئيات» لتيار التجديد السريع «الثوري»، تفريغا للشحن النفسي الذي يعاني منه أصحاب هذا التيار من طول المعاناة والكبت والمصادرة، وإلى أن تكتمل صورة المملكة الدستورية بكامل هيئتها، وترفل بثوب الديمقراطية المطلوبة... فإن أصحاب هذا التيار سيبقى لسان حالهم يقول: «نحن هنا ننتظر، ولم نغب عن الساحة ولن نقبل تهميشنا».

والمراقب من خارج الدائرة يفهم حقيقة الوضع وشدة تأزمه بين النقيضين، فوجود فكر تيار التجديد السريع الثوري ضرورة لا يحتمها التنوع الفكري وتعدد الآراء في البيئات الديموقراطية فقط، أو كما يسمى الترف الديموقراطي، إنما وجوده ضرورة أيضا لتحفيز الآخرين على تذليل جميع الصعاب التي تعترض سبل الحياة الكريمة للمواطنين، فيتسابقون ويزيدون في العرض، وخصوصا أن الطلبات المقدمة من المواطن البسيط طويلة قائمتها، منها على سبيل المثال: محاربة الفساد المالي والإداري، حلحلة أزمة البطالة، كسر الاحتكار، معالجة المشكلة الإسكانية، فواتير الكهرباء والماء، فواتير وسائل الاتصال، غلاء أسعار السلع الضرورية مقابل ثبات دخل الفرد... إلخ. ولهذا فوجود هذا التيار ضرورة، وملحة أيضا.

فكر التيار الوسطي «التوفيقي»

في حديثنا عن النقيضين «التيار المحافظ» وتيار التجديد السريع «الثوري»، رأينا بونا شاسعا بينهما، ما تطلب وجود تيار وسطي توفيقي للمحافظة على التوازن النسبي في الساحة السياسية، فكان برز فكر التيار الوسطي «التوفيقي» والذي يلاقي ملامة شديدة من قبل الضدين، ويبلى أصحابه بلاء حسنا في ذلك، فهو واقع بين نقيضين لا يلتقيان إلا في النوادر، وموقعه الحيادي يكسبه عداوة أحد الطرفين لبعض الوقت، ومودة طرف آخر في الوقت ذاته، والعكس بالعكس، فإذا اتفق مع طرف اختلف مع الطرف الآخر، وهكذا تتبادل الأطراف العداوة والمودة للتيار الوسطي «التوفيقي».

ويحاول أصحاب هذا التيار «التوفيقي» امساك العصا من الوسط، ولكي لا أبتعد كثيرا عن مثالينا السابقين - حوادث شارع المعارض وقضية حيازة السلاح- فرؤية التيار التوفيقي تقوم على رفض «الوقوف المكتوف الأيدي من قبل رجال البوليس» ورفض نشر صور المتهمين ومحاولة «تسييس» القضية، وكذلك بالنسبة إلى الموقف من قضية «حيازة السلاح» رفض هذا التيار نشر الصور، وأيضا محاولة ربط هؤلاء الأفراد بجهات أجنبية - كما تم التصريح به في بداية إلقاء القبض عليهم - واستخدام «قرص» سي دي توجد معلوماته على الانترنت على انه دليل لإدانة هؤلاء الأفراد الذين لا تربط بين بعضهم أي صلة؛ ومع ذلك أطلقت عليهم الجهات الرسمية مصطلح «الخلية»؟! وفي الوقت نفسه يحاول هذا التيار تحريك القضية ناحية مساءلة السلطات المختصة في إثارة شبهات وارتباطات سياسية عن مثل تلك القضايا، وما هو مدى ملاءمة أوخدمة مثل ذلك «التسييس» للمشروع الإصلاحي الذي يقوده جلالة الملك حفظه الله.

ووجود هذا التيار ضرورة بحكم توسطه بين رأيين، فهو يقدم رؤية متوازنة لإدارة الخلاف بين الفرقاء، ويحافظ على قدر معقول من التوازن المطلوب، ويحاول التهدئة في غالبية الحالات، محاولا التمسك بالاصلاحات وتطويرها وتفعيلها، وذلك لتأكيد أن العملية الإصلاحية تسير وفق النهج المرسوم لها، وهذا في حد ذاته مفيد للتجربة الوليدة.

إن تلك المواقف التي يتخذها أصحاب هذا الفكر التوفيقي بقدر ما تعتبر عقلانية وواقعية حين النظر إليها من خارج الشارع السياسي إلا أن النقيضين أو الضدين - التيار المحافظ وتيار التجديد السريع الثوري- يعتبرانها «مائعة» أو «جبانة» أو توصف على أكثر احترام بأنها «متراجعة»! ولذلك فالجهد المبذول يحتاج للمضاعفة من قبل اصحاب الفكر الوسطي التوفيقي إذ ان الشقة بعيدة بين النقيضين، وهنا من المهم إلقاء الضوء على محور مهم وهو أن جميع التيارات يوجد بها من ينادي بالتقارب والاستفادة من وجود تيار الوسط التوفيقي، وذلك لتأكيد أحقية طروحاته وتثبيت أفكاره وتدعيم مواقفه وصحة معتقداته.

إن من الضروري معرفة أن السجال السياسي الدائر بين التيارات، وحياة الدمقرطة الجديدة والتحول ناحيتها، بكل ما فيها من تفاهم وانسجام، واختلاف وخصام وتصارع في الرؤى والأفكار، وتعدد الآراء، إذ أضحت جميع الأصوات مسموعة، والاجتهادات والمواقف أصبحت معلومة، أن كل ذلك بلا ريب إحدى ثمرات مشروع الإصلاح، وننتظر أن نحصد باقي الثمرات فالقضاء على البطالة ستكون من الثمرات، ومكافحة الفساد بأضلاعه الثلاثة: (المالي والإداري والأخلاقي)، ومعالجة الأزمة الإسكانية، أما فيما يخص التعديلات الدستورية فإشارة جلالة الملك في هذا الخصوص واضحة لا لبس فيها وهي: «إن التجدد والتطوير لمشروعنا الإصلاحي لا نهاية له» وعلى اعتبار دستور 2002 نتاج المشروع الإصلاحي الذي لا ينتهي تجديده وتطويره؛ فمن باب أولى أن يشمل الدستور شيء من هذا «التطوير والتجديد»، وهذا ما نتفاءل به دائما.

نأمل ونحن نعيش في مجتمع صغير، أن نرسم صورة جميلة معبرة عن واقعنا الاجتماعي المتآلف، بعيدة عن التشنج والاقصاء والتهور واللا عقلانية، فهذه البلاد مثلما وسعت جميع الاتجاهات والتوجهات في حقب ماضية ستسعنا أيضا - بإذن الله - لحقب مقبلة، فيجب على الجميع التفكير بوعي مسئول، ومحاولة خلق مجتمع منتج للثقافة الرصينة، التي تكون حجر زاوية في بناء الفرد وتقدم الأمة، ومثل تلك التربية السليمة هي المخرج لما «يعشش» في ذهن بعض الإقصائيين والتجزيئيين، وبالفكر الحر العقلاني المرتكز على مبادئ ديننا الحنيف وشريعتنا السمحاء، وبعيدا عن الاقصاء وتأجيج الصدور ضد بعضنا بعضا إذ نحن (نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه) وذلك (بعد النصيحة أو التناصح) سنصل حينها بإذن الله لغد أفضل

إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"

العدد 280 - الخميس 12 يونيو 2003م الموافق 11 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً