إذا أردت أن تعرف اتجاه بوصلة السياسة الخارجية الاميركية فما عليك إلا ان ترصد ما يقوله نائب وزير الدفاع الاميركي بول وولفوويتز، وذلك ليس لانه فلكي مثل نوستراداموس، بل لأن ماقاله واقترحه في السابق اصبح حقيقة متجسدة على ارض الواقع.
بعد ضربة 11 سبتمبر/ ايلول بفترة قصيرة، وفي الوقت الذي كانت فيه الادارة الاميركية تدرس سبل الرد على الاعتداء، وخلال اجتماع عقد في منتجع كامب ديفيد، اقترح نائب وزير الدفاع على المجتمعين وأصر عليهم أن يكون العراق ضمن المرحلة الاولى من الحرب على الارهاب (راجع كتاب بوب وودورد:بوش في الحرب). عندها رفض الرئيس جورج بوش الحديث عن العراق، معتبرا أن لأفغانستان افضلية اولى.
أستدعي الصحافي والكاتب ديفيد فروم (وول ستريت جورنال) مرة إلى البيت الابيض، وطلب منه المساعدة على كتابة خطاب الرئيس بوش في الذكرى الاولى لولايته. يطلق على هذا الخطاب «خطاب حالة الاتحاد»، وهو خطاب مطلوب من الرئيس سنويا، وذلك بحسب الدستور. في هذا الخطاب، يعلم الرئيس الكونغرس والشعب الاميركي بما هي عليه حال الامة الاميركية. كانت اميركا انتهت من الحرب على افغانستان، وبدأ التركيز ينتقل إلى العراق.
طُلب من الكاتب ديفيد فروم ان يبتكر صياغة معينة لفقرات قد تكون ضمن الخطاب، يبرر فيها الرئيس بوش سبب تقصده العراق. يقول الكاتب فروم في كتابه «الرجل المناسب» The Right Man: «عندها عرفت ان قرار ضرب العراق كان قد اتخذ مسبقا. والمطلوب الآن مني هو ايجاد الإخراج المناسب».
كانت مهمة فروم صعبة، لكنه استطاع وضع العراق ونظامه، من ضمن المخاطر التي تهدد السلام العالمي. فكان الاقتراح الذي قبل من دون مناقشة، ألا وهو: «خلق محور الشر من كل من ايران، العراق وكوريا الشمالية». شكلت كوريا الشمالية البلد الوحيد في هذا المحور غير الاسلامي بهدف خلق التوازن.
تحققت نبوءة وولفوويتز، وضربت اميركا النظام العراقي، واحتلت العراق. بقي على اميركا ان تثبت وجود اسلحة الدمار الشامل، والتي كانت السبب الرئيسي لشن الحرب.
حتى الآن، لم تجد القوات الاميركية اي اثر لاسلحة الدمار الشامل. كالعادة يتدخل وولفوويتز من خلال مقابلة صحافية لمجلة «فانيتي فير» (9 مايو/ايار 2003)، ليقول: «لاسباب لها علاقة بالامور البيروقراطية في الحكومة الاميركية، اتفقنا على ان يكون هناك سبب واحد يوافق عليه الكل، كأسلحة الدمار الشامل مثلا». في هذا التصريح يكون نائب وزير الدفاع كمن يحاول التقليل من اهمية اسلحة الدمار الشامل، كسبب لغزو العراق.
كيف يمكن تفسير ما قاله نائب وزير الدفاع؟
من الاكيد ان العراق، لا يملك وحده اسلحة دمار شامل. كما ان العراق لا يشكل التهديد الوحيد للولايات المتحدة. إذ من المفروض والمنطقي ان يكون هناك سبب آخر لغزو العراق غير اسلحة الدمار الشامل. يتعلق السبب الرئيسي بالاهداف الاستراتيجية الاميركية في المنطقة. لكنه لا يمكن لأميركا، ان تقول علنا إنها ستغزو العراق لاسباب واهداف استراتيجية اميركية فقط. فلغيرها من القوى الكبرى اهداف استراتيجية في المنطقة، وفي العراق تحديدا. فهل كان من المفروض على هذه الدول ان تحتل العراق قبل اميركا؟ طبعا كلا، فالحرب بهذا الحجم ولاهداف استراتيجية وفي منطقة حساسة جدا لا يمكن ان يقوم بها سوى الاقوى. اميركا هي الاقوى الآن، والتبرير قد لا يكون ضروريا، وهذا ما يحاول وولفوويتز شرحه.
هل هذا التبرير مؤذٍ للولايات المتحدة؟
طبعا نعم، وللأسباب الآتية:
* قد يظهر هذا الامر ان اميركا تكذب، لتبرر حروبها. وهي (أي اميركا) لا تهدف سوى إلى الهيمنة، ولا تأبه بالرأي العام العالمي ولا بمؤسساته الدولية.
* قد يُظهر هذا الامر ان هذه الادارة تكذب ايضا على الشعب الاميركي، وأن الرئاسة تسيطر عن قرب على كل المؤسسات، الامر الذي قد يعني انتهاكا كبيرا للدستور. وإلا فماذا تعني زيارة نائب الرئيس تشيني لوكالة الاستخبارات الاميركية عدة مرات قبل إصدار التقرير عن اسلحة الدمار الشامل العراقية؟ قد يعني هذا الامر تسييس وكالة الاستخبارات الاميركية، والتي قد تستعمل لاحقا ضد الداخل ولاسباب سياسية.
* قد يضع هذا الامر علامة استفهام على قدرات الوكالات الامنية الاميركية، فـ «الماء تكذب الغطاس» وارض الواقع العراقية تكذب حاليا الـ «سي.آي.إيه». وقد نسأل هنا، هل نصدق الوكالة إذا ما اصدرت تقريرا يتهم ايران؟ وهل يمكن لاميركا ان تبرر حربا عليها؟ طبعا كلا.
لكن السؤال الثاني المحير، قد يكون من الجهة العراقية. أين هي اسلحة الدمار الشامل؟ هل هي موجودة فعلا؟ وإذا كانت موجودة فلماذا لم يستعملها الرئيس صدام حسين؟ وإذا كانت موجودة واقدم الرئيس صدام على اتلافها عند بدء الحرب، فهل كان لديه متسع من الوقت؟ واين هي مؤشرات التدمير؟ إذا هل هو يخبئها في مكان ما، كي يستعملها لاحقا ضد القوات الاميركية المحتلة من ضمن حرب مقاومة مستقبلية؟ هل الرئيس صدام حسين حي أم لا؟ ام ان احد اولاده او معاونيه سيقود حرب التحرير؟ على كلهل يجب على حرب التحرير ان تكون باسلحة دمار شامل؟ أمر غريب.
لكن وإذا ما سلمنا جدلا أنه لا وجود لهذه الاسلحة إطلاقا. فلماذا تصرف الرئيس صدام بهذه الطريقة؟ لماذا تحدى الولايات المتحدة، ولم يفتح كل الابواب وعلنا؟ هل كانت الامور الخاصة به كالوطنية وروح الكرامة العربية هما اللتان منعتاه من الانصياع للعم سام؟ ممكن، لكن اين هي الكرامة العربية عندما يقتل الرئيس صدام من الشعب العراقي اكثر بكثير مما قتلت اميركا، وبطريقة وحشية جدا؟ هل اعتقد الرئيس صدام ان اميركا سوف لن تهاجم، وهي تناور فقط؟ على كلٍ ما وقع قد وقع، واميركا الآن في كل العراق. وهي قد حققت اول الاهداف الاستراتيجية، لكن يبقى الامر المهم في صورة العراق المستقبلية والتي ستبنيها.
انتقل وولفوويتز من الموضع العراقي، إلى شرق آسيا، فهل سنرى هناك تغييرا ما؟ ممكن، لذلك اعتبرناه بوصلة السياسة الخارجية الاميركية. وذلك لانه من السذاجة ان نعتقد ان اميركا احتلت العراق وانتهى الامر. فإذا كانت اميركا تتصرف هكذا، فهذا يعني ان هناك مصيبة كبرى ستصيبها، وتصيب العالم في وقت لاحق. لذلك من الاكيد ان لأميركا اجندة عالمية بدأت بالعراق، وها هي الآن تتوجه نحو شرق آسيا. فماذا عنها؟
* قررت اميركا وبالتوافق مع كوريا الجنوبية ان ترصد مبلغ 11 مليار دولار للقوات الاميركية الموجودة على الارض الكورية، وتحديدا على الخط الفاصل مع الشمال.
* تهدف اميركا إلى تحديث هذه القوى المنتشرة لتصبح على شاكلة القوى التي خاضت الحرب الاخيرة ضد العراق، وخصوصا أن التكنولوجيا العسكرية اصبحت جاهزة ومختبرة.
* كذلك الامر، طلبت السلطات الاميركية من الحكومة الكورية الجنوبية السماح لها باعادة انتشار قواتها على مسافة بعيدة من خطوط التماس.
ماذا تعني هذه الامور؟
* أن اميركا عازمة على تقليل عدد قواتها في كوريا الجنوبية، لتعتمد اكثر على القوى القليلة الخفيفة والمجهزة باسلحة متطورة على غرار القوى التي خاضت الحرب على العراق.
* إن تقليل العدد قد يعني تراجع اهمية كوريا الجنوبية، وقد يعني ايضا ان المشكلة الكورية الشمالية هي مشكلة اقليمية، وجب على المحيط المباشر لها التعامل معها من هذا المنطلق.
* قد يعني ان هناك إعادة توزيع جديدة للقوى الاميركية في العالم. كانت بدأت هذه الاعادة في السعودية، اوروبا الغربية وهي وصلت إلى شرق آسيا.
* قد تفسر كوريا الشمالية هذا الامر بأن اميركا بصدد التحضير لضربة استباقية، لذلك هي تبعد قواها عن خطوط التماس، وقد يؤدي هذا الامر إلى حسابات خاطئة لدى كوريا الشمالية لتضرب هي اولا.
* قد يعني هذا الامر ايضا انه على كوريا الجنوبية ان تهتم بأمنها ايضا، وهي مدعوة إلى صرف المزيد من الاموال على الامور الدفاعية.
أين يدخل وولفوويتز في هذه الامور؟
خلال خطاب ألقاه في مؤتمر الامن الآسيوي (31 مايو 2003) في سنغافورة إذ ركز نائب وزير الدفاع على الامور الآتية:
* اهمية آسيا للامن الاميركي، فأميركا بلد يطل أيضا على الباسفيك إلى جانب الاطلسي.
* ركز على ان الارهاب انتصر تكتيكيا وخسر استراتيجيا. فهو كان في بالي، لكن ها هي كل الدول الآسيوية تحاربه، فهو اصبح مطوقا.
* ذكر وولفوويتز ايضا ان اميركا بصدد تقييم وضع انتشار قواتها في العالم، وأن اميركا ستستمر في الاعتماد والتركيز على الاستقرار في شرق آسيا من خلال التعاون مع الحلفاء، التعددية والردع. لذلك هو ركز على نوعية القوات الاميركية المتقدمة.
* أخيرا وليس آخرا بدا من خطابه ان اميركا بصدد تركيب واقع استراتيجي أمني يقوم على مثلث مؤلف من كل من: اليابان، استراليا وكوريا الجنوبية. تأتي هذه الدول كركيزة اساسية بالاضافة إلى دول ثانوية كالفلبين، سنغافورة (وخصوصا ممر مالاكا البحري)، ماليزيا، اندونيسيا وفيتنام التي ابدت استعدادها لاستقبال القوات الاميركية.
بعد هذه التطابق بين اقوال بول وولفوويتز، وما جرى ويجري على الساحة العالمية، هل من المفيد ان نرصد تحركاته؟ طبعا نعم
العدد 279 - الأربعاء 11 يونيو 2003م الموافق 10 ربيع الثاني 1424هـ