العدد 279 - الأربعاء 11 يونيو 2003م الموافق 10 ربيع الثاني 1424هـ

العريض وأرض الشهداء... قراءة في ملحمية المقدمة

السنابس - حبيب آل حيدر 

تحديث: 12 مايو 2017

أن يخصص المبدع منجزا كاملا من منجزات أعماله الأدبية في قضية ما فهذا يدلل على مدى اهتمامه بهذه القضية الاهتمام الإبداعي إذ يفرد لها ديوانا مستقلا بذاته وذلك لمحورية هذه القضية التي يدور حولها وفيها هذا العمل الأدبي والمنجز الإبداعي وهي القضية الفلسطينية التي تأبى إلا أن تفرض نفسها بقوة على الشاعر فينطلق بها في ملحمة شعرية أصيلة العروبة أصيلة الشاعرية. العمل الأدبي المقصود في هذه المقدمة هو ملحمة أرض الشهداء للشاعر إبراهيم العريض هذا العمل الذي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1951م من ثم تتالت طبعاته إلى أن وصلت جميعها إلى أربع طبعات آخرها الطبعة التي أمامي الآن طبعت بوساطة مكتبة فخراوي البحرين 1996م متشحة برسوم تحاول التعبير عن الدماء السائلة على الأرض ممثلة تجذر الدماء في شقوقها التي تخرج الوردة مكان سقوط الشهيد.

وثمة لوحة داخلية للفنان عقيل حسين الذي أبرز فلسطين في صورة فتاة رافعة رأسها في شموخ للسماء وكفيها للأعلى في ندبة واستصراخ باللون الأحمر في شكل القلب الذي يتلاشى مثل ما تتلاشى خصلات الشعر الذهبي والأحمر، هنا يحيط جسدها الذي لم يبق منه سوى شيء من فستانها الأبيض لتتجسد فلسطين في صورة الفتاة المستصرخة وسط الدماء.

وقفة مع فاتحة الملحمة

إن وقفة مع الفاتحة الذائعة الصيت تكشف للمتلقي أن الشاعر يقف من فلسطين موقفا ملحميا يبرز من خلاله قدسية القضية وارتباطها بالسماء كما هي الحوادث الكبرى في الملاحم ذات الخوارق والأفعال الأسطورية بتمجيد المآثر الجماعية وإبراز البطولات الوطنية واستنهاض القيم الدينية وشحذ المثل الإنسانية من خلال سرد جهور لمآثر البطل الذي تتجسد فيه تلك المآثر والقيم وتلك البطولات والمثل العليا، وكذلك تجسيد النبل الأخلاقية على الأرض بالخوارق أو بالأفعال السماوية الكبرى.

يا فلسطين وما كنت سوى

بيعة الأرض

على كف السماء

اشهدي... أن بياني قد روى

فيك ما يرضي

قلوب الشهداء

هذه التربة مذ غنى بها أهل الحداء

لم يطهرها من الرجس سوى تلك الدماء

كم زكا المسجد من أعرافهم بعد الفناء

كم ربيع مر لم يعرج عليهم بهناء

فاستمر العود عودا ما به أدنى رواء

وشتاء طال حتى مل من فرط البلاء

وتمادى الظلم فيها لغزاة أدعياء

فكأن الليل شيء ما له معنى انتهاء

ثم جاء الفجر يسعى بتباشير الضياء

مظاهر النفس الملحمي

وقد بينت ذلك من خلال مظاهر النفس الملحمي الذي تمثل في الدخول المباشر في الموضوع وبطولة الأرض وضخامة الحدث وسماويته، ثم ملحمية القداسة، وملحمية صيغ الجمع، وملحمية التضاد،وملحمية الإيقاع.

الدخول المباشر في الموضوع

يتجلى النفس الملحمي مع أول عبارة في القصيدة إذ دخل بنا الشاعر مباشرة إلى عمق الحدث وأساس موضوع الملحمة في ندائه لفلسطين مباشرة (يا فلسطين وما كنت سوى بيعة الأرض على كف السماء) وهذه عادة الملاحم الكبرى منذ البداية توقعك في الغرض الأساسي من الملحمة فتفضي بموضوعها من غير مواربة مع الأسطر الأولى من الملحمة منتحيا بذلك المنحى الكلاسيكي كما هو الحال في ملحمتي هوميروس اللتين أعلن فيهما لموضوعه منذ مستهل القصيدة.

بطولة الأرض

وعلى المستوى البطولي يتجلى النفس الملحمي من خلال الحالة البطولية التي سيظهرها الشاعر في صوغ الملحمة ولنتساءل من هو البطل هنا؟ وأين تكمن البطولة؟ إن البطولة في هذه الملحمة ليست لأشخاص، وليست لحوادث معينة، إنما هي لهذه الأرض العظيمة المضحية، إن البطولة هنا هي للمكان لأرض فلسطين التي تتوالى عليها الحوادث الكبرى والمصائب العظيمة، إلا أنها تبقى راسخة في ثباتها صامدة في شموخها باقية على قداستها وطهرها الأصيل الذي تحافظ عليه بالدماء الطاهرة، فهي شخصية سامقة العلو في البطولة المعنوية كما هي الشخصيات الملحمية التي تكتسب البطولة عبر ارتفاع قامتها في الملاحم من خلال سرد المآثر التي تجعل فلسطين تجسد المثل الإنسانية الكبرى.

ضخامة الحدث وسماويته

ويتجلى النفس الملحمي من خلال تفخيم الحدث واستخدام لغة العظماء وإجلاء الانتصارات والهزائم العظام والإشارة للمعارك والمبارزات البطولية الجماعية الكبرى الشهيرة، وكذلك من خلال إشراك الشاعر قوة الطبيعة في صناعة الملحمة، ومحاولته ربط فلسطين بالفعل السماوي والفعل الأرضي عبر بيعة الأرض على كف السماء، إذ يبين الشاعر ضخامة هذا الحدث من خلال إشراك السماء والأرض في صنعه، وكذلك بوصله هذا الحدث بالظواهر الطبيعية إذ تشارك في صنعه السماء بأمطارها، والأرض بربيعها وشتائها، وهذا يجعل نظام الكون مشاركا في تضخيم هذا الحدث، وإضفاء العناصر الملحمية عليه.

ملحمية القداسة

تتبدي الملحمية في محاولة الشاعر إشراك قوة الغيب في الحدث الملحمي وبيان القداسة الكبرى، قداسة هذه الأرض من خلال المبايعة بين السماء والأرض، وان الأرض تبايع السماء، وبيعتها هي هذه الأرض فلسطين لبيان أنها تمثل مكان اتصال السماء بالأرض من فعل البيعة، و هكذا كلما اتصل الأمر بالسماء تأكدت الحالة القدسية من خلال إبراز المثل العليا والقيم الإنسانية الكبرى وإضفاء صفة القداسة عليها في ربطها بعنصر الغيب وجعل الواصلة بينها وبين السماء هي فلسطين، فهي المجسدة لهذه المثل الكبرى.

ملحمية صيغ الجمع

ويغرق الشاعر في النفس الملحمي حينما يطرقه على المستوى اللغوي، فيستخدم صيغ الجمع بكثرة في مقارنته بين الخير والشر(الشهداء، أهل الحداء، الدماء، أعرافهم، أجداثهم، غزاة، أدعياء، البيد) وكل هذا ليجسد من خلاله الكثرة وسعة المساحة التي تشملها ساحة الملحمة، فهي صحاري واسعة وبيد شاسعة يسقط فيها شهداء في موقف بطولي وتراق فيها دماء بفعل غزاة أدعياء، وكل صيغ الجمع هذه لبيان الحالة الجماعية في مشهد يجري بين الشهداء والغزاة في هذه الأرض وتحت عين السماء الشاهدة.

ملحمية التضاد

وتتبين الحالة الملحمية كذلك من خلال استخدام الشاعر للمتضادات أو الألفاظ التي تحمل في داخلها حالة التضاد عبر ما تستدعيه في أغوارها من دلالة عميقة عبر الألفاظ الآتية:

- الطهارة والرجس/ دلالة النقاء والنجاسة.

- الليل والفجر/ دلالة الظلمة والنور، اليأس والأمل.

- الربيع والشتاء/ دلالة الهدوء والصخب، الاستقرار والعاصفة.

- البلاء والتباشير/ المصيبة والحل، التأزم والانفراج، الشدة والرخاء.

وهذه المتضادات تحمل شحنة تستمدها من تقابل الخير والشر اللذين ترتد إليهما الملاحم في أصل الصراع الدائر من أجل البطولة.

الملحمية الإيقاعية

ان من أهم ما تستدعيه الحالة الملحمية الحاجة إلى البحر العروضي الممتد القادر على احتواء المعاني الكبيرة التي يريدها الشاعر، لذلك ليس من الغريب أن يلجأ العريض إلى طرق بحر الرمل:

في مقدمة كل مشهد:

فاعلاتن فاعلاتن فاعلات فاعلاتن فاعلاتن فاعلات.

يا فلسطين وما كنت سوى

بيعة الأرض على كف السماء

اشهدي... أن بياني قد روى

فيك ما يرضي قلوب الشهداء

في المتن:

فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن.

هذه التربة مذ غنى بها أهل الحداء

لم يطهرها من الرجس سوى تلك الدماء

وبحر الرمل كما ينظم له الخليل مشيرا إلى تفاعيله (رمل الأبحر ترويه الثقاة فاعلاتن فاعلاتن فاعلات) فهو بحر طويل إذ أنه سداسي التفعيلة، وقد لجأ إليه الشاعر فمرة نسج معانيه في ست تفاعيل ومرة سردها في ثمان تفاعيل وكل ذلك ليجسد به تلك المعاني الممتدة ذات الآفاق البعيدة الواسعة الكبيرة التي أرادها في ملحمته وقد كانت (صفة الملحمية - كما أشار مجدي وهبة في معجمه- تطلق على البيت السداسي التفعيلات في الشعر اليوناني واللاتيني، والخماسي التفعيلات من البحر اليامي في الشعر الإنجليزي، وعلى البيت السكندري ذي المقاطع الاثني عشر في الشعر الفرنسي) ومن هذا الاقتباس أردت أن أدلل على شدة الارتباط الكلاسيكي بين الحالة الإيقاعية الممتدة الطويلة التفعيلات بالحالة الملحمية التي تحتاج للبحر الموازي لها كي تعبر بالشكل عن الامتداد والسعة والضخامة التي ترصدها الملاحم الكبرى.

بين مدرستين

بعد هذه الوقفة مع المقدمة التي اتسمت كما بينت بتكثف العناصر الملحمية، لم يكن يخالجني شك في أن الشاعر سيأتي بعد هذه المقدمة الشعرية بملحمة من الملاحم الكلاسيكية الكبرى، خصوصا بعد إحساس بوعيه بالعناصر الملحمية التي احتوت عليها مقدمته، إلا أنه يفاجئنا بأرض الشهداء التي تقطر رومانسية، وليس فيها من الكلاسيكية سوى الانحياز للشكل فقط، متجاوزا ما أوحى به في المقدمة وكأن المقدمة ما هي إلا أداة من أدوات إثبات الأصالة التي من خلالها يعبر الشاعر عن اعتزازه بالذات والهوية الخاصة، وإن هذا التراوح بين المقدمة والعمل نفسه يجعلنا نعود لمقولة إبراهيم غلوم التي يلخص فيها رؤيته لمسرح العريض بالتذبذب بين الكلاسيكية والرومانسية، طبقا لكتاب ظواهر التجربة المسرحية في البحرين، ولعل هذا ما استقصته منى غزال في كتابها: «إبراهيم العريض بين مرحلتي الكلاسيكية والرومانسية»، ولكني بعد هذا أصبحت أميل إلى أن العريض كان يريدها ملحمة كالملاحم الكبرى، كما أوحى في المقدمة مشيرا إلى ما سيأتي كما هي وظيفة المقدمة، ولكنه ميل إلى التجديد وانطلاق مع الكلاسيكية الجديدة (النيوكلاسيكية) حاول أن يترفع عن التقليد متجاوزا المقدمة ليحط في ربوع الرومانسية الحالمة على مستوى الصورة، مع شيء من التقريرية أحيانا، وذلك لطبيعة المقولات التي يفرضها الحوار بين الشخصيات، وهذا ما يحتاج إلى قراءة ممعنة داخل الملحمة في تتبع لأهم السمات التي تفرضها طبيعة النص





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً