العدد 279 - الأربعاء 11 يونيو 2003م الموافق 10 ربيع الثاني 1424هـ

عالم واحد... كالبلد الغريب

لم يكف العالم عن أن يكون مسرحا للغرب وميدانا خصبا لتمثيلاته. وتمثيلات الغرب للعالم هي تمثيلاته عن نفسه، مرآته التي لا يني يشظيها ويدمي بها وجهه والعالم. وليست فكرة حاقدة أن يكون الغرب قدر العالم المشئوم بل ربما هي أدعى للابتسام، فما يحمل بين جنباته الموت يحمل الحياة أيضا.

لم تكن الجيوش والحشود العسكرية وملحقاتها من إبادة ومجازر... هي كلمة الغرب الأولى للاتصال (الانفصال مع) عن العالم بل هناك ما هو أبعد، فتحت «الصخب والعنف» يرقد فكر فيه ما هو صامت ومتكلم في آن، مناطق الصمت تدعم وتؤازر المعبر عنه، فكرا وواقعا ولا يكون تواريها المزعوم إلا شدة فعالية، تبدو قعقعة السلاح وهدير المدافع مقارنة بها غباء بغباء... لم تحتج انجلترا إلا لعشرات الآلاف من جنودها لتحكم بهم عشرات الملايين من الهنود... لم يحتج كورتيز ليتغلب على سكان أميركا الأصليين إلا الى العبث بمفاتيح منظومتهم الرمزية ليقلب حالهم رأسا على عقب، فخلف الجندي الانجليزي وأشباهه يقف طابور طويل من كتاب ومفكرين ورجال دين، يشيعون الصمت والقبول في البلد الأم، يسترون به دوي المدافع في بلاد ما وراء البحار.

«تقانة المكان»

إذا لم يكن المكان هو الحيز المادي الموضوعي فقط بل مضافا إليه الخبرة البشرية التي تجعل منه فضاء اجتماعيا، فإن الاندياح الغربي صوب العالم اللاأوروبي ما كان ليتم من دون الاقتران بخبرة بشرية أوروبية تقتحم الفضاء الاصلي وتزرع فضاءها الخاص مستفيدة من الخلل الناتج في توطيد فضاء استعماري ينشر عباءته فوق البلد المستعمر من جهة ومن جهة ثانية فوق بلد المستعمر نفسه بما يضمن الولاء والاستمرارية لمنظومته السلطوية. وبذلك تتحول الخريطة الجغرافية إلى شكل من اشكال التعبير عن القوة والسيطرة. فمن يحدد على خريطة العالم مساحة بيضاء، باعتبارها مجهولة، إنما يعقد العزم على اكتشافها وتجييرها لصالحه. ولن تكون الخطوط الوهمية للخريطة نفسها، التمثيلات على الورق، سوى التمزيقات الفعلية على الأرض، تمزيقات على صعيد الواقع وعلى صعيد الفضاء أيضا. ومن هنا ينشأ صرح التباين الهائل بين الـ (هنا) والـ (هناك) وتمثل الجنسانية أحد أهم تعبيراته وأكثرها اضمارا ومضمونية، كونها الاشد التصاقا بالسياسي ودلالاته. إنها (أي الجنسانية) القادرة على ترفيد وتشريب المكان بالمعنى بما يكسبه دلالات رمزية تشكل وساطة التعرف به، وبما يتيح بناءه واعادة انتاجه اجتماعيا عن طريق «أدوات واستراتيجيات استطرادية يتم بها تكوين الفضاء كمكان» وهو الهاجس الاساسي الذي يشكل محور الكتاب وعقدة الناظم.

سياسة الزمن

عمد علم الاناسة، كأحد استطالات السياسة الاستعمارية، إلى خلق فارق زمني بين منتج الخطاب الاناسي (المستعمِر) وبين موضوعه (المستعمَر) باحالته الموضوع (أي المستعمَر) إلى زمن آخر مختلف وهو ما أسماه فابيان «سياسة الزمن». فمن غير الممكن تبعا للفيزياء، وكذلك على ما يبدو للسياسة، أن يشغل جسمان حيزا واحدا من الفراغ في الزمن نفسه ولذلك كان لابد من خلق هذا الفارق الزمني المذكور والذي تم على أساسه إنشاء «مخطط وضعت بموجبه ليس فقط ثقافات الماضي، بل المجتمعات الحية كافة، بشكل نهائي على منحدر زمني، تيار الزمن، البعض في أعلى المجرى البعض الآخر في أسفل المجرى». كان الخطاب الإثنوغرافي - بحسب جميل شِك - على صلة مضمرة بالخطاب الايروتيكي على رغم الادعاء الظاهري بعملية موضوعية تتعرى فيها المسميات والصور الصريحة جنسيا لأعضاء الجسد البشري (اللا أوروبي حصرا) في سياق الخطاب، عن اثاريتها الجنسية لتثير برودا علميا زائفا فيه الكثير من الادعاء والمراءاة. واللافت أن الطابع الانفجاري لهذا الخطاب لم يتطور عبر عشرات السنين بل حافظ على سطحية وضحالة مادته وابتذالها على رغم - وللمرة الثانية - الادعاء بعملية زائفة.

وقد لا حظ شِك عبر مسحه لمادة كتابه تكرارا في الموضوع لدرجة «تبعث على الغثيان» وكذلك لاحظ تناقضا مذهلا في التوكيدات والأحكام المتعلقة بـ «اللاأوروبي». إذ تتقلب المرأة الشرقية في مختلف الكتابات الغربية من رحلات وروايات وتقارير بين صفات القبح المفرط والجمال المذهل، القذارة الجسدية المشينة والاهتمام لدرجة الهوس بالنظافة، الشذوذ الجنسي والسوائية الجنسية، وهي تناقض لا يمكن تفسيره من وجهة النظر التي ترى في تمثيلات الخطاب الاستعماري كلا متجانسا لدرجة الاتساق، إذ أن الشواش والتناقض الراسخ فيه ليس تعبيرا عن تفكك وضعف بقدر ما هو تعبير عن قدرة على التكيف والتلاؤم. فطرفا التناقض معا لا يعبران عن حقيقة المرأة الشرقية مثلا، بل هما غير معنيين بذلك أصلا، ولذلك لا يتنافيان، بل يتآزران ويتبادلان المواقع في سياق التعبير عن واقع أوروبا وعن نظرتها الى ذاتها من خلال اطلالتها التلصصية على الآخر و«أخرنته» (Othering). فأن تكون المرأة الشرقية قذرة في الخطاب الأجنبي هو تعبير ضمني عن نظافة البورجوازية الأوروبية الصاعدة من جهة وعن الجهد الاستعماري باعتباره جالب النظافة والصحة إلى المستعمرات من جهة أخرى. وأما هوس المرأة الشرقية أيضا بنظافتها الجسدية واستحمامها، فهو تعبير عن وعي البرجوازية الأوروبية «المجدة، المضحية بنفسها واللاجنسية» أساسا من جهة وتعبير عن عدم قدرة المستعمَر على حكم نفسه وانصرافه الى الشهوات والبذاءات من جهة أخرى وبالتالي توافر المسوغ الاخلاقي لاستعماره واحتلال أرضه.

هزيمة المجاز

في تمثيل فج وشائع لدرجة الغثيان كان الاغتصاب رمزا أثيرا من رموز العملية الاستعمارية للأرض لدى المستعمِر المنتصر وتعبيرا عن الرضة النفسية التي استتبعتها هذه العملية الاستعمارية ذاتها على السكان الاصليين. وفي الحالتين هي براعة خائبة للغة جريحة. في حالة المستعمِر يندرج الأمر في اطار السيطرة على المستعمَر الاصلي وعلى ترتيب البيت الداخلي للمستعمِر ذاته. وإذا كان ذلك متساوقا مع الطبيعة الذاتية للنظام الاستعماري، فعلى أي أساس يمكن القبول باللقاء بين التوظيف الاستعماري لمجاز الاغتصاب و«الاستخدامات التقدمية» لذات المجاز من قبل الخطاب المضاد للامبريالية. وهنا يحذر جميل شِك من هذا الاستخدام الذي يغفل النتيجة المترتبة إذ «سواء كانت المرأة التي تُغتصب بيضاء أم سمراء أم سوداء، وسواء اغتصبت من قبل رجل ابيض أم أسمر أم أسود، فإن المجاز في النهاية يعيد انتاج النساء بوصفهن موضوعات (أشياء)». ولنا في ذاكرة قريبة وحارّة مثلا مازالت تمثيلاته مستمرة بطريقة مشابهة وأقصد الخطاب عن فلسطين، أو اغتصاب فلسطين، أو فلسطين المغتصبة، وعن الغاصب المحتل، خير تعبير عن ذلك كله. مع ملاحظة أن ثمة انسحاب بطيء ولكنه مؤكد لهذه التعابير من التداول الرسمي والشعبي، إذ استنفذت اللغة هنا شحنتها العاطفية وفقدت صدقيتها الموهومة أمام ثقل ووطأة المتغيرات. وكفت في الحال الرسمية عن وظيفة الخداع وفي الحال الثقافية والشعبية عن وظيفة الايهام والاعلان الرضي عن جرح عاطفي وعجز صميمي، وتم الاستفراد العلني بالشعب الفلسطيني الذي واجه ويواجه الواقع المرير من دون الحاجة الى مجازات من قبيل مجاز الاغتصاب، الذي هو كأي مجاز تعبير عن علاقة مخلخلة مع الواقع هي علاقة عزوف وانسحاب الأمر الذي هو بعيد عنه كل البعد.

كتاب جميل شِك دعوة جدية للتفلت من أسر الـ «هنا» والـ «هناك»، الـ «نحن» والـ «هم»، أسر ارتفعت أسواره عاليا عبر مئات السنين من العمل الواعي وغير الواعي، في الوقت ذاته، على كذبة امتدت لترسخ وتطالب بأحقيتها كحقيقة. ولكن تجد الكذبة، أية كذبة، ميدانا أكثر رحابة من اللغة لتمارس فيه عنفها واستسلامها، قوتها وضعفها، نبلها وعهرها. لذلك كان الكتاب - حسب رغبة مؤلفه - دعوة لاطلاق بناءات تحررية وخلق بنى مقاومة قادرة على انشاء سرديات مختلفة يكون العالم على أساسها بلدا للجميع، نقاط التمايز والخصوصيات القومية والثقافية فيه هي قنوات اتصال أكثر من كونها متاريس لحرب أبدية سخيفة. وعلى غير قصد من المؤلف قد يدفع الكتاب، بقراءة سريعة وسطحية، القارئ إلى تمثل الحيف الذي ألحق بـ «نا» من قبل «هم» على أنه الدعوة إلى مثل هذه الحرب وتلك مسئولية ذلك القارئ وحده بالطبع





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً