ابتداء لابد من الرجوع إلى الوراء، إلى عقد السبعينات من القرن الماضي، وذلك حينما تم تنفيذ قانون أمن الدولة بعد حل المجلس الوطني العام 1975، إذ بدأت وزارات الدولة كل بحسب اختصاصاتها في تعميم ثقافة وقيم أمن الدولة وتدخلات «الداخلية» في كل صغيرة وكبيرة فيها، من تحديد التوظيف للمواطنين بحسب ملفاتهم الأمنية إلى الترقيات للمناصب العليا، وعلى صعيد المؤسسة العامة للشباب والرياضة، فلقد مارست سياسة أمنية عبر خطة أو استراتيجية بدأت خيوطها تتكشف رويدا رويدا، وذلك ابتداء بجلب خبراء أميركان أخذوا يشرفون على قطاع الشباب وأنديتهم الرياضية والثقافية، مرورا بسياسة دمج الأندية الصغيرة المتناثرة في الأحياء والمناطق الشعبية في كل من المنامة والمحرق، وهي أندية كانت في الأساس معقلا للحركة الوطنية والأفكار الوطنية، ونافذة لقوى المعارضة السياسية السرية في نشر أفكارها والتي كانت تتعزز عبر الثقافة والفكر بالدرجة الأساسية، ولذلك كانت هذه الأندية معقلا لكل شاب مهتم بالمسرح أو الفنون أو الآداب أو الفكر، ومكانا للجذب صوب هذه الاهتمامات بدلا من الضياع أو إدمان المخدرات أو التسكع في الشوارع وممارسة اللاشيء في ظل الفراغ.
ثم بدأت المؤسسة وخصوصا بعد إلغاء القانون القديم وصدور قانون الجمعيات الجديد العام 1989 في التحكم في الأندية التي أصبحت تتراجع أدوارها الثقافية والفنية وخصوصا في المدن، إذ بدأت اللجان النسائية في هذه الأندية تحل نفسها والمكتبات الصغيرة فيها تغلق لتتحول حجراتها إلى مخازن أو مقرات للجان الرياضية ولجان المسرح تتفتت والمجلات الحائطية انتهت واللجان الثقافية حلت نفسها أو تقزمت أدوارها وفعالياتها، وأحد الأسباب الرئيسية أن النشطاء من أعضاء هذه الأندية اما كانوا ملاحقين من جهاز أمن الدولة أو مراقبين ويحاسبون لأي فعل يقومون به إذ يربط بالنشاط السياسي.
ولقد ساهمت التحولات الاقتصادية بعد الطفرة النفطية في تراجع الاهتمام بالثقافة والفكر والمسرح والفنون الأخرى، إذ حلت قيم الاستهلاك محل الثقافة والقراءة الجادة، فضلا عن الظروف المعيشية واللهاث وراء الرزق والعمل وسرعة الحياة التي لم تترك لهؤلاء الشباب فرصا أو وقتا من الممكن الاستفادة منه للنشاط الثقافي في الأندية، إضافة إلى وجود بدائل مؤسساتية أخذت تحل محل الأندية في النشاط الثقافي، كالمسارح والمؤسسات الثقافية الجديدة.
غير أن المحطة الرئيسية في هذه المتغيرات كافة تراجع اهتمام المؤسسة العامة للشباب والرياضة بالفعل الثقافي واهتمامها الكامل والمطلق بالفعل الرياضي، بل وبجزئية هذا الفعل، إذ تم التركيز على أنواع محددة من الرياضة، متناسية أن أحد مقومات نجاح وتفوق الرياضي هو وجود وعي معين ثقافي وفكري لديه يتمكن من خلاله استيعاب الخطط والمناورات ويعزز قيم الرياضة الراقية والحضارية في الملاعب، لتصبح الرياضة إلى جانب فن المتعة والاستمتاع، بعدا للصحة وخلق قيم العمل الجماعي.
هي إذن ـ أي المؤسسة العامة للشباب والرياضة ـ لم تبدأ بإهمال الجانب الثقافي من سياساتها في هذه المرحلة، إنما هي سياسة مورست منذ السبعينات وممتدة إلى الآن.
ولذلك فإن المطلوب في اعتقادي هو الآتي:
أولا: أن تقوم الدولة بشكل جدي في إعادة النظر وبمراجعة كاملة لسياستها الشبابية، بحيث يتم فصل المؤسسة الرياضية عن المؤسسة الشبابية، ذلك أن القائمين حاليا على المؤسسة الشبابية الرياضية الراهنة هم إما من الذين مازالوا يتقمصون قيم وثقافة أمن الدولة أو انهم من المهتمين والمتشبعين بالهم الرياضي فقط وليس لديهم اهتمام ولا تخصص في الشأن الثقافي، إلا النادر منهم وهم ليسوا في مواقع صنع القرار.
ثانيا: أن تزيل المؤسسة العامة للشباب والرياضة الحالية ازدواجية معاييرها بل وسياساتها عبر دراسة مهماتها كما حدد لها قانون تأسيسها أولا، والأهداف الموضوعة لتأسيسها، إلى جانب إعادة النظر الشاملة لقانون الجمعيات والأندية الذي ينص على وجود النشاط الثقافي في الأندية، فأما أن تلتزم المؤسسة بنصوص القانون أو تطالب بقانون رياضي بحت لها، ويتم تأسيس وزارة أو مؤسسة شبابية تكون من اختصاصاتها الرئيسية الفعل الثقافي.
وتبدو الازدواجية واضحة في القرارات التي تتخذها المؤسسة، فهي تعمم بأن اختصاصاتها رياضية ولا علاقة لها بالثقافة، ولكن في المقابل تعقد الاتفاقات مع المؤسسات العالمية كبرنامج الأمم المتحدة في صوغ استراتيجية شبابية تتضمن في محاورها إلى جانب النشاط الرياضي نشاطات ثقافية وفنية، هذا فضلا عن قيام المؤسسة حاليا بالإشراف على بعض النشاطات الثقافية كالمسابقات المسرحية أو المشاركات الخارجية الثقافية والمسرحية والأدبية أو إقامة فعاليات تراثية وفلكورية هي في محصلتها مرتبطة بالثقافة.
إن ازدواجية الأقوال والأفعال بحاجة إلى الانتهاء منها، وأية استراتيجية شبابية جادة بحاجة إلى قيادة مؤسسية متخصصة لهذا القطاع ولدينا عدد لا بأس به من المتخصصين في الشأن الشبابي ويمتلكون رؤية شاملة لاستنهاض الشباب ثقافيا وفكريا ومسرحيا وأدبيا وفنيا ورياضيا واجتماعيا... الخ.
إن المرحلة الممتدة من 1975 ولغاية تدشين المشروع الإصلاحي العام 2001م هي مرحلة شوهت فيها الحركة الشبابية، وانتشرت جملة من الأمراض الاجتماعية وبعضها خطيرة جدا على بنية المجتمع، إذ بدأ قطاع من الشباب ينخرط في الإدمان وما له من تأثير على الإنتاجية والتنمية الشاملة إلى جانب الأمراض الأخرى كضعف الاهتمام بالفنون والثقافة والفكر وتراجع مثل هذه المعارف والوعي ليحل محلها القيم الاستهلاكية والسطحية، ولذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب عقولا جديدة لهذا العالم الجديد والمعولم بثقافاته الجديدة غير التقليدية، فهناك الانترنت والفضائيات والانكشاف الثقافي على ثقافات العالم، إلى جانب الكتاب والمسرح والمعارض والندوات... الخ، واعتقد أن المؤسسة الراهنة المهتمة بالشباب غير قادرة ولن تتمكن من تنفيذ استراتيجية شبابية تهدف إلى استنهاض الشباب على الأصعدة كافة، وأؤمن بأن مواجهة تحديات العولمة وإفرازاتها السلبية لن تكون بالانغلاق أو بوسائل وعظية تقليدية، وإنما بوجود استراتيجية تشتمل على سياسات واضحة المعالم وبرامج محددة من سياسة وخطط عمل مجدولة زمانيا ومكانيا واعتمادات وتمويل لتأسيس بنية تحتية قوية لإنجاح هذه الاستراتيجية وعقول متخصصة وواعية سياسيا ومعرفيا لتقود هذه الاستراتيجية بعيدا عن المحسوبية أو الفساد أو البيروقراطية أو المصلحية.
حينها نستطيع أن نتكلم عن الفروع، أما أن نحاول ترقيع الأمور أو إصلاح مؤسسات عششت فيها قيم وثقافة وسياسات لا تتلاءم مع المرحلة الجديدة فكأننا حقا نقارع السماء ونحارب طواحين الهواء أو نتجادل على إنقاذ شجرة تعمينا عن رؤية غابة كبيرة وراءها تحترق
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 278 - الثلثاء 10 يونيو 2003م الموافق 09 ربيع الثاني 1424هـ