مقر الأمم المتحدة في جنيف له هيبة توازي حجم المنظمة الدولية التي تجمع الدول ذات السيادة «المستمدة من حق شعوبها في تقرير مصيرها»، من الناحية الرسمية على الاقل. أمام المدخل الرئيسي يوجد دوار لمرور السيارات الفاخرة التي تنقل سفراء وممثلي الدول «ذات السيادة الكاملة على أراضيها». السيارات تتنافس في جودتها، والمعادلة المتعارف عليها هي أن جودة وفخامة السيارة تتناسب بصورة عكسية مع غنى وفقر تلك الدولة، بمعنى ان الدولة الأفقر يسوق وفدها أفخم السيارات.
وفي وسط الدوار استطاع عدد من الفنانين قبل سنوات اقناع المسئولين عن الدوار باقامة «كرسي» ضخم يبلغ طوله قرابة خمسة عشر مترا. الكرسي الضخم قائم على ثلاث أرجل فقط. أما الرجل الرابعة فقد تم كسرها بطريقة همجية واعتباطية. الارجل الثلاث تعبّر عن العالم الاول والثاني والثالث. أما الرجل الرابعة فتعبر عن العالم الرابع الذي «نسته» الأمم المتحدة.
العالم الرابع المقصود به من قبل الفنانين الذين كسروا رجل الكرسي الرابعة هم «فقراء» أوروبا والعالم. فالذين اقاموا ذلك الكرسي أرادوا القول ان هناك الملايين من الاوروبيين وغير الاوروبيين الذين يعيشون دون مستوى الفقر الرسمي. وان هؤلاء الفقراء ليسوا محسوبين في التقسيم الاقتصادي الذي لم يعد يعتد به كثيرا.
فتقسيم العالم بالأول والثاني والثالث هو فكرة أميركية قديمة قسمت العالم بحسب التطور الصناعي للدول. فأميركا وأوروبا واستراليا وجنوب افريقيا واليابان (وحتي «اسرائيل») كانت تعتبر من دول العالم الأول، المتقدم صناعيا. أما العالم الثاني فكانت اشارة «استهزائية» وجادة في الوقت ذاته تشير الى اقتصادات الدول الاشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية. أما العالم الثالث فيتمثل في تلك الدول التي لم تتطور اقتصاداتها بالدرجة الكافية التي تؤهلها للاصطفاف مع الدول الأكثر تقدما.
العالم الثالث، عنوان يحمل في طياته مقاصد سياسية ايضا وليست اقتصادية بحتة. فذلك العالم كان عليه ان يلتحق بركب العالم الاول أو الثاني وان تصبح له تبعية سياسية ناتجة عن عملية الالتحاق، لم يقبل الكثيرون بتلك التسمية، ولهذا ظهرت المسميات الاخرى كالدول النامية ودول عدم الانحياز وغيرهما. ان عددا من الدول التي كانت تصنف ضمن خانة العالم الثالث أصبحت اليوم في مصاف دول العالم الاول. وفي الوقت نفسه فان كثيرا من الدول النامية اصبحت دولا «نائمة» منهكة بأنظمة اقتصادية فاسدة وتصرف موازناتها على شراء الاسلحة الثمينة جدا والتي لا يستفاد منها في أي شيء سوى القمع الداخلي.
دول العالم الثاني لم تعد عالما ثانيا، لأن الاشتراكية بنهجها الأوروبي القديم انتهت، وسارعت تلك الدول إلى اللحاق بدول العالم «الاول». دول العالم «الاول» بدأت تتراجع اقتصاداتها في مقابل اقتصاد دول عالم ثالث سابقة، وربما الاشارة بوجود عالم رابع في اوساط العالمين الاول والثاني (أوروبا الغربية والشرقية) تشير الى ان عولمة الاقتصاد تعني ايضا عولمة المظاهر الاجتماعية الناتجة عن الخلل الاقتصادي، فلم يعد هناك شمال غني وجنوب فقير، لأن دول آسيا الغنية في جنوب العالم. فمعدل دخل الفرد الواحد في سنغافورة يزيد على دخل عدد من الدول الاوروبية. كما لم يعد هناك معسكر شرقي ومعسكر غربي لأن أوروبا الشرقية الاشتراكية تلهث للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي (الذي يحتوي على معظم دول المعسكر الغربي سابقا).
غير ان العالم الأول والثاني والثالث يمكن النظر اليها بصورة مختلفة. اذ ان هناك ثلاث مناطق اقتصادية تسيطر على العالم. وهذه هي أميركا الشمالية، أوروبا، وشرق آسيا المحاذي للمحيط الهادي. وهذه المناطق الاقتصادية الثلاث تسعى حثيثا للتنسيق فيما بينها لضمان استمرار حيازتها الريادة الاقتصادية العالمية. فالاتحاد الأوروبي يعتبر اكبر انجاز وحدوي وتنسيقي بين الدول «القومية» القريبة من بعضها بعضا. ولذلك فان دول أميركا الشمالية (كندا، الولايات المتحدة، والمكسيك) وقعت اتفاق «النافتا» للتنسيق بينهم ومنافسة الأوروبيين في القرن الواحد والعشرين. وهناك ايضا منظمة «الآسيان» التي تحاول التقريب بين الدول «القومية» في شرق آسيا للمحافظة على النمو الاقتصادي.
ولهذا، فان الرجل الرابعة المكسورة للتعبير عن عالم رابع قد لاتكون موفقة في الاختيار «العددي» لان هناك عالما خامسا وربما سادسا وسابعا، وكل هذه العوالم موجودة في منطقتنا العربية الاسلامية. وهذه العوالم تعيش فقرا واستضعافا حضاريا. وممثلو هذه العوالم يسوقون سياراتهم الفخمة لدى دخولهم مقر الأمم المتحدة في جنيف من دون ان تسترعي انتباههم رمزية الرجل المكسورة. ذلك لأن رؤوس معظمهم قد تم تكسيرها قبل إرسالها «لتمثيل» شعوبها في الأمم المتحدة. عوالمنا اصبحت مادون مستوى العالم الثالث ولذا فقد قررت «قائدة العالم الاول، اميركا المحترمة» الرإفة بنا والحاقنا بعالمها بالقوة. وبغداد بداية لذلك ... السئوال المثير هنا: من الذي سيسوق السيارات الفاخرة جدا للوفد العراقي في جنيف؟ في الماضي كان اخو صدام لامه، برزان التكريتي، هو الذي تنقله السيارات الفاخرة التابعة للبعثة العراقية في الامم المتحدة، وكانت افضل من سيارات الوفد الاميركي
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ