في مطلع التسعينات، كان الشاعر علي الشرقاوي يقوم بتغطية مهرجان موسيقي محلي، فكتب عن مشاركة الفرقة الموسيقية للشرطة، قائلا إنها ربما تكون المرة الأولى التي يقف فيها الناس ليعبروا عن إعجابهم بالشرطة للأداء الرائع للفرقة الموسيقية.
هل علينا اليوم أن نحيي موقفا مشابها لوزارة الإعلام، باجتماعها بمسئولي الصحف اليومية امس الاول والطلب إليهم أن «يكفوا أيدي كتابهم وكل من يتصل بهم بصلة» عن «نبش جملة موضوعات»، ربما أخطرها هو الموضوع الطائفي؟
إن بلوغ موضوع «التراشق» الطائفي و«التقيد»، أو ما أسماه وزير شئون مجلس الوزراء محمد المطوع بـ «التنابز»، موضعا خطيرا بدا ألا رجعة فيه أبدا، كان ينذر بمصائب شتى، إذ إنه ليس من الموضوعات التي يمكن أن تطرح هكذا على الملأ، فيقرأها الخاصة والعامة بتفسيراتهم المتفاوتة، وما يقال في هذا النوع من الموضوعات إذا لم يكن لكاتبها موقع صدق وتاريخ ممتد من تفهم الآخر، والدفاع عن قضاياه أيضا، والتماس العذر له فمن السهل أن تنسب إليه أقذع النعوت، وأسوأ الأوصاف، إلى جانب ما يسببه هذا الأمر من ضغائن تتنامى بين أهل البلاد، فتحيل النظرات المتلاحقة، والتعامل اليومي، إلى شك وتفسير على أسوأ المحامل، وأجواء مكهربة غالبا بين الناس أينما كانوا.
واستجابة لـ«توجيه» وزارة الإعلام، فإن هذه السطور لن تتطرق إلى من أشعل الشرارة، وما الذي كتب هنا أو هناك، ومن قال ومن رد ومن صرّح ومن لمّح، ولكنها تنصب أساسا على توصيف الحال التي وصل إليها جزء ليس باليسير من المجتمع جراء هذا التراشق.
ففي الحوادث الكبرى في التاريخ، يتم تناسي الأسباب الجوهرية التي أدت في البدء إلى اندلاع حرب أو قتال، لأن التطورات اللاحقة لها تكون أسرع وأعظم من أن تعاد إلى أصل السبب، فما حدث في «حرب البسوس» التي استمرت زهاء أربعين عاما أن شرارتها بدأت بقتل ناقة، لم يسأل أحد بعد سنوات من الاقتتال عن تلك الشرارة، إذ إن الجميع انزلق في هذا المنزلق الكريه، حتى العقلاء منهم أيضا اختفت أصواتهم، وابتلعتها الدهماء، وأصبحوا (العقلاء) مبرِّرين ومفسِّرين للحرب وضرورة أخذ الثأر.
هذا بالضبط ما أوشك عليه التراشق والتنابز الذي عجت به صحافتنا، وصار الحليم بين الطرفين حيرانا، فإن كان حلماء القوم وعقلاؤهم مع اقتراح وقف هذه الحملات فورا وفي المدى الذي وصلت إليه أخذا بـ (enough is enough)، سئلوا عن حق «إعادة الكف» إلى الطرف الآخر، وإن قبلوا باستمرار ما يحدث فإن هذا يعني أن القضية لن تنتهي، إذ لا يزال كلا الجانبين يود أن تكون له الكلمة الأخيرة التي بعدها تسكت مدافع الأحبار.
الأسوأ من هذا، أن خرج من بين أعضاء المجلس الوطني من ألمح بأن الهجوم إن لم يتوقف على أحد طرفي المعادلة (الأقرب إلى مذهبه)، «فسيضطر» -ومن والاه- إلى الوقوف إلى هذا الطرف تحديدا، بغض النظر عمن بدأ، ومن أخطأ، ومن استرسل، ومن بالغ، ومن استحمق... في حال تنم عن «عصبية» وليس عن «وعي» كان يتوجب أن يتحدث به ممثل الشعب، إذ إنه ليس ممثلا لطائفته وحسب... موقف يدل عن تخاذل حضور الوعي الوطني، وقصوره عن وضع هذه القضية في إطارها الخاص حتى لا تنداح دوائرها، ويتلاحق المتطوعون للانضمام في كلا الجيشين، وبالتالي يكون المتوازنون الأكثر عرضة للهجوم، والأكثر قابلية -بعدها- للاستقطاب.
إن استمراء لعبة التجاذبات الطائفية في البحرين في الكتابة، تشبه إلى حد كبير ما يفسره علماء النفس من نزعة الأطفال إلى الاستيلاء على أكبر قدر من مساحة الحرية، فهم (الأطفال) يأتون بأفعال جريئة، وينتظرون، فإن لم يجدوا أي رد فعل سلبي من قبل آبائهم، صعدوا الأمر إلى درجة أخرى، وأخرى، حتى يطفح الكيل بولي الأمر، فيتدخل بشكل حاسم لينهي هذه اللعبة... إنه نوع من الاختبار لمدى صبر الطرف الأقوى، واختبار للمساحة التي من الممكن أن تتحرك فيها أمثال هذه القضية، وتستغرق الأطفال هذه الألعاب وينغمسون فيها لقلة وعي منهم، متناسين الحدود التي يجب أن يقفوا عندها، وكيف لهم أن يناوروا حتى لا يستجلبوا غضب الوالدين عليهم.
ولذا، كان مخجلا جدا أن تقوم وزارة الإعلام مقام الأب هنا، و«تأمر» بإيقاف اللعبة، بما يشي أننا لا نزال نحتاج إلى من «يضبط كتاباتنا»، وأن المطالبة بإلغاء وزارة الإعلام لن يكون له محل في السنوات القليلة المقبلة، ما دامت «الحرية» لا تزال في حاجة إلى «تدخلها» بين الفينة والأخرى
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ