العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ

حكم أسرة بغداد

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في هذا المكان كتبت منذ أشهر ان الفضائح التي ارتكبتها الأسرة الحاكمة السابقة في بغداد لن نعرفها بتفاصيلها إلا بعد سقوطها، وقد كان التوقع صحيحا، فلم تمض بضعة أسابيع حتى ظهرت معلومات تصف شكل حكم قبيح من كل الوجوه، واعتقد ان ما سمعناه وقرأناه حتى الآن، هو غيض من فيض، ستتكشف امر خباياه اكثر منذ الآن وصاعدا.

وامامي نص معبر نشرته الصحف منذ ايام قليلة، قادم من (عظام الرقبة) كما يقال، عن شقيقة زوجة الرئيس المخلوع ساجدة طلفاح، وزوجة اخيه غير الشقيق وطبان الحسن، الذي كان في وقت ما وزير داخلية؛ الهام خير الله طلفاح - وفي هذا الحديث فقرة ارعبتني، على رغم ما اعرف واتوقع من احتمالات سيئة لما يمكن ان يحدث في العراق تحت حكم تلك الاسرة - وانقله باختصار، تقول الهام في الحديث عن الحادث المشهور وهو اطلاق الرصاص على زوجها، وزير الداخلية من قبل عدي الابن الاكبر للرئيس المخلوع: «يوم المولد النبوي في مزرعة احد العراقيين بدأت المسألة، عندما دعي وطبان، وزير الداخلية وقتها إلى حفل عشاء عن طريق احد اقاربه، وكانت الدعوة عامة، واثناء العشاء خرج قريب لوطبان وقتل مرافقا لاحد المدعوين، حاول وطبان في البداية تسوية الموضوع، ولكنه لم يتمكن، وذهب رفيق القتيل إلى عدي صدام حسين. وطلب منه ان يرتب موعدا للقاء الرئيس. ولكن عدي قال له ان الامر لا يستحق ان يتصل بالرئيس، سأقوم انا بتسوية الموضوع، وتوجه عدي وكان مخمورا إلى المزرعة، واطلق النار من رشاشه على الموجودين واصاب وطبان».

ثم تكمل الهام خير الله طلفاح لتصف موقف الرئيس السابق صدام حسين حيال الحادث فتقول: «إن الرئيس زار زوجها في المستشفى اكثر من مرة، وفي كل مرة يزورنا يذكر ان عدي احرجه احراجا كبيرا، وانه اصبح يدعو عليه بعد كل صلاة!».

هذا النص مشبع بالدلالات، وهو صادر من شخصية، غير مسيسة، وقريبة إلى درجة كبيرة من الحلقة الصغيرة الداخلية للعائلة التي كانت تحكم العراق، فماذا نقرأ في النص الآنف.

أولا: علنا نلاحظ ان الحفل كان بمناسبة (المولد النبوي) ونجد ان ليلة مثل هذه يحتفل وزير الداخلية العراقي بها باقامة حفلة في (مزرعة) ويمكن ان نتخيل ماذا دار في تلك المزرعة ليلة المولد النبوي، بدليل ان (عدي) المخمور (من جديد) ربما كان يحتفل بالمناسبة نفسها ذهب إلى المزرعة وجه الصبح تقريبا ليطلق النار على عمه، وزير الداخلية، وينتهي العم برجل واحدة بعد ان بترت رجله الاخرى جراء الحادث. كل ذلك يحدث في ليلة المولد النبوي!

ثانيا: ان القتيل الاول (ولا نعرف حتى الآن كم قتل عدي تلك الليلة بدم بارد) الذي قتله قريب وطبان يبدو انه عومل لا اكثر من حشرة ازيلت عن طريق الناس، فقد قتل الرجل ببساطة كما تروي الهام (خرج قريب لوطبان وقتل مرافق احد المدعوين) وحاول وزير الداخلية ان يسوي الامر، نعم فقط يسوي الامر، فلم يفلح، وهذا دليل آخر على مكانة الانسان العراقي لدى هذه الاسرة التي تحكمت ثلاثين عاما على الاقل في رقاب العراقيين.

ثالثا: اين القانون فاذا اشتكى احدهم لابن الاسرة المدلل، تحول القانون إلى الاستيداع، وذهب هو وليس غيره وفي الليلة نفسها للاخذ بالثأر من القاتل بفتح النار على الموجودين، بمن فيهم العم وزير الداخلية الذي هو اول من ينتهك القانون ان وجد!

اما الرابعة: فهذا التوجه من الرئيس نفسه، فهو يدعو على ابنه (بعد كل صلاة!) لانه حاول قتل اخيه امام الناس وفي ليلة هاج فيها المزاج، اما تطبيق القانون (مرة اخرى ان وجد) او فرض عقاب على الفعل الشنيع الذي ارتكب، فكل ذلك غير محتمل او ممكن، فابن الريس يتصرف في الناس كتصرف الراعي في القطيع يذبح ما ارتأى انه قابل للأكل، وفي هذه الحال نهم ابن الرئيس للدم لا يفوقه نهم آخر!

الآن وبعد النقاط الاربع السالفة علينا ان نتعرف على الترميزات الدينية في جمهورية اسرة صدام حسين، فهو الذي قرر ان يضع على العلم العراقي كلمة (الله اكبر) وهو الذي استدعى مجموعات بعد مجموعات يتناولون الدين كخبز سياسي من اجل توظيفه في صراعه السياسي للحفاظ على السلطة، فحول الرموز الدينية إلى ادوات لبسط سيطرته المطلقة على العقول والاجساد، وهو بذلك يقوم بشكل واع بتحويل الرمز الديني إلى وسيلة سياسية لاضافة شرعية ما على الاستبداد.

احد المتاريس التي اراد الرئيس المخلوع ان يتمترس بها حتى امام اقاربه هو التظاهر بالتدين (يدعو على ابنه بعد كل صلاة!) وهو الابن المدلل الذي يعرف والده انه يستطيع بكل بساطة ان يوقفه عن هذا السلوك الشاذ في التحكم في ارواح البشر، يصلي ثم يطلب ان يخسف بالابن!

ان التوظيفات الدينية والترميزات العقائدية هي التي وجهت العقل السياسي للاسرة الحاكمة السابقة في بغداد، فهي ماجنة ومتفسخة من الداخل بعيدا عن اعين العوام، ومستدعية للرمز الديني في الخارج امام الناس، ويمكن توظيفها ايضا في التبرير للقتل وسفك الدماء.

من هذا النص الذي ذكرت وهو نص قادم من داخل الاسرة وغير مراقب وبسيط، نستطيع ان نفهم ان الشهادة هذه هي بعض ما انطوى عليه حكم الأسرة الصدامية من عبث، المعفية دائما من أية مراقبة أو معاقبة.

كما ان هذا النص يذكرنا بالفجور الذي ارتكب وانساق وراءه البعض المتخفي خلف الممارسات السياسية الاسلامية، وفي ظني ان (الخلط المتعمد بين اليقين الديني والتوظيف السياسي) يجب ان يكشف للعامة ليس في ممارسات الاسرة الصدامية السابقة، انما واكثر الحاحا، في ممارسات تدور اليوم على الساحة العربية، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً