متى نسأل أنفسنا في البحرين عن كيفية مواجهة المشكلات والأمراض؟ هل نهرب منها أم نبحث عن الأدوية وطرق العلاج؟ والصحافة: هل تحمل مصباح ديوجين مهما كان ثقيلا أم تعود إلى حمل المباخر وحرق البخور؟
الشيطان الرجيم
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي قابل أحد الصحافيين «الشياطين» أحد الزعماء العرب، وكان الهم الأفغاني هو المسيطر على العقول والصحف والأقلام، ليس لوقوع دولة إسلامية تحت الإحتلال الأجنبي البغيض فحسب وإنما بالدرجة الأولى لاستنفار الإعلام الأميركي وإعلانه النفير العام، تخويفا من اقتراب الدب الأحمر من مياه الخليج الدافئة، حسب التحليل الذي تم تسويقه في تلك الأيام على الجماهير. الصحافي «الشيطان» قابل الزعيم العربي ودار الحديث فيما دار عن الشأن الأفغاني، و«تحجّج» الشيطان بالوجود الأميركي في الخليج، فقال الزعيم العربي المحبوب انه وجود شرعي مادامت دول المنطقة هي التي سمحت له، فقال الشيطان الرجيم: وكذلك الوجود السوفياتي، فالحكومة الأفغانية الشرعية هي التي استدعته أو سمحت به، إذن فالاحتلال السوفياتي لأفغانستان شرعي. واختار الجملة الأخيرة لتكون عنوانا رئيسيا على الغلاف، وقفز اللقاء الصحافي من غلاف تلك المجلة الأسبوعية ليتخذ سبيله إلى وسائل الإعلام المختلفة، وليثير زوبعة من التعليقات، ما اضطر وزارة الخارجية أن تتدخل لتعيد تركيب الكلام، ووزارة الإعلام لاتخاذ خطوات «احترازية» لمنع الوقوع في مثل هذه الهفوات، ولقطع الطريق على الصحافيين «الشياطين»، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
دفاع عن الظهراني!
تذكرت ذلك وسط الأجواء التي أثارتها المقابلة الصحافية مع رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني، وما تبعها من تحليلات وتعليقات، وردود فعل وأرقام وكتابات. حتى تطوّع البعض للدفاع عنه وكأنه ارتكب منكرا من القول وزورا، وحاول البعض الآخر في معرض الدفاع عنه أن يذكّر الناس بأعماله التطوعية والخيرية التي عملها ابتغاء مرضاة الله، ولم يقصد أن تنشر على الناس في الصحافة، في دفاع عنه وعن انجازاته غير المنكورة، بل وتذكيرنا في «المرافعة الأولى» بخبرة الرجل الطويلة وتاريخه المليء بالتجارب والخبرات. هذا والرجل حي يرزق، له منطق صلب وحجج بليغة يسوقها في قوة وثبات ويكاد يقنع خصومه السياسيين، إلى درجة أن هنأه البعض عليها ك«ضربة معلم»، فهو والحال هذه لا يحتاج إلى دفاع هزيل ولا إلى «متطوّعين» للدفاع عن آرائه التي ألقاها في صدق يحسب لصالحه، في وقت تسود فيه طرق أخرى للتعامل مع مشكلات البلد، سواء بتجاهلها أو إنكار وجودها أو القفز فوقها أو تأجيلها... وكلها طرق لن تؤدي إلى حل المشكلات، ومنها ما يحكى عن التمييز أو الطائفية، إن كان المتحدثون عن ذلك صادقين.
والطائفية موضوع بغيض، لا أحد يتحدث عنه في هذا البلد عن رغبة فيه أو حب، فهي مرض أشبه بالايدز، الجميع يتبرأ منه، ولكن من الصعب ان يبرأوا منه. هذا الجرب الأسود تكره أن تراه العيون ولكن تستشعره النفوس في الأعماق. ولسنا في وارد اتهام أحد أو التقوّل على أحد. ولكن نقول ان هناك في البلد مشكلة، سواء كانت مشكلة حقيقية أو مرضا وهميا، ولكن في الحالين المشكلة تحتاج إلى حل. والحل يحتاج إلى سعة صدر وحسن نية، وإلا لن تحل المشكلات العالقة وإنما ستتراكم وتتجمع على سواحل الوطن كل النفايات والأوساخ والأوجاع والآلام، ولن تبقى في الأفق بارقة أمل في الشفاء.
وإذا كان الإمام محمد عبدة (رحمه الله) قبل قرن من الزمان أطلق لعنته الشهيرة على السياسة وكل مافيها وكل حرف يتصل بها...بعد تجربة مريرة مع السياسة في زمانه، حتى غدت كلمة مشهورة يسوقها المحبطون العرب كلما برز على الساحة موضوع إحباط جديد، فإنه أولى للبحرين، الرسمية والشعبية، أن تعلن البراءة من هذا الداء البغيض قولا وعملا، لتمضي في طريق الإصلاح ومحاربة الفساد الذي يجمع على ضرورته كل المهتمين بالشأن السياسي العام، رسميين وجمعيات سياسية ورأيا عاما يتطلع بشغف إلى قطف ثمار المشروع الإصلاحي منذ زمن بعيد.
أيهما أغلى الوطن أم الأولاد؟
كما ان تجاهل المشكلة أوالهروب منها أو محاولة القفز فوقها لن يحلها أبدا. فالمسألة كما شاهد الجميع تكتسب درجة كبيرة من الحساسية، سواء عند الجانب الرسمي أو رجل الشارع على السواء. وما دامت تحمل كل هذه الدرجة من الحرارة فلابد أن يفكر الجميع في حلها بصورة ترضي الجميع قدر الإمكان، بعيدا عن التشنج او التصعيد. فالناس تشعر بوجود مشكلة، والمواطن لا يحتاج إلى تصريح بالنفي من وزير ليقتنع بعدم وجودها، كما انه لا يحتاج إلى مقال أو تحليل أو تحقيق صحافي ليكشف سرا مخبوءا أو كنزا مدفونا أو لغزا غامضا. يكفي أن تدخل الوزارات لتعرف اللون السائد في هذه الوزارة أو تلك. ونحن هنا لسنا في وارد الاتهام أو اللوم أو حتى العتاب، وإنما في مواجهة مشكلة يئن منها الوطن، وعلى المخلصين أن يتقدموا لحلها بنوايا حسنة وقلوب صافية، إذا أردنا ان يكون الوطن للجميع، وإذا كان تأمين مستقبله يهمنا كما يهم كلا منا تأمين مستقبل أولاده.
كما أن المساعي لمنع الصحافة عن الحديث عن هذا الموضوع لن يحل المشكلة، ففهم دور الصحافة يقتضي السماح لها بالحديث عما يهم المجتمع وتناول قضاياه. فالصحافة يمكن ان تُسأل أو تُحاسب إذا تناولت قضايا تهز المجتمع أو تثير الفتنة أو تتطاول على المقدسات، أما أن تعالج قضايا البشر التي يعيشونها وتعرض مشكلات المجتمع المهمة وتبحث مع الأطراف الأخرى عن الحلول، فهذا ما لا يجب العمل على منعه. وإذا كنا نتحدث عن مستقبل أفضل للبحرين، فلا يمكن أن نبني على أساس خاطئ، ففي هذه الفترة القصيرة كم من القضايا ساهمت الصحافة في إلقاء الضوء عليها وكشف الأخطاء والعمل على تصحيح الممارسات الخاطئة منها. ومادام الجميع يتكلم عن الإصلاح ومحاربة الفساد فلا ينبغي ان يضيق صدرنا، وإلا فإن البديل هو أن تستمر الاوضاع على ما هي عليه، فتبقى السماء ملبدة بالغيوم، وعلى الأرض يجثم الغبار الذي يحجب الرؤية، ونعود بالممارسة الصحافية إلى أساليب المدح والثناء والتبجيل، وتستبدل مصباح ديوجين لتحمل المباخر وتحرق العود والبخور.
وأخيرا: الطائفية، هذه العملة البغيضة في السوق، جاءت عفوية وغير مقصودة في أحسن الأحوال، أما في أسوأ الأحوال فإن الناس تعيشها منذ سنين طويلة، وهي التي فرخت أوضاعا متشنجة. وأكبر دليل على حضورها في الوعي الجماعي العام هو ما نعيشه هذه الأيام إذ أصبحت حديث الشارع وبؤرة اهتمام الناس.
لا نلوم أحدا ولسنا في وارد اتهام أحد، ولكن تبقى الطائفية موضوعا يعيشه الشارع البحريني، وسواء كانت مرضا حقيقيا كما صرح الظهراني (أدام الله ظله)، أو وهما كما ذهب الوزير المطوع، فإنها تحتاج إلى علاج، على ألا يكون علاجا على طريقة محاربة الشياطين الذين يحملون مصباح ديوجين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ