محاولة الانقلاب في موريتانيا تفتح أكثر من ملف سياسي يتعلق بهوية جامعة الدول العربية ودور هذه «المؤسسة القومية» في حل مشكلات طارئة أو مزمنة تطول هذه المساحة الجغرافية الشاسعة من المحيط الى الخليج. محاولة الانقلاب في هذا البلد العربي - الافريقي تشكل مناسبة لفتح سلسلة ملفات تتعلق بوظيفة الجامعة العربية وامكاناتها وكذلك قدراتها على مواصلة لعب دور سياسي في ترتيب خلافات الدول المنضوية تحت مظلتها. والمناسبة الموريتانية مهمة للبدء في طرح مسألة تحديث منظومة العلاقات العربية - العربية واعادة قراءة تطوراتها في ضوء نمو نزعة قطرية (كيانية) تغلّب المصلحة الخاصة على العامة. وموريتانيا في هذا المعنى هي من الدول القليلة التي طرحت على الجامعة العربية سلسلة تحديات تتناول الجوانب الخفية (المسكوت عنها) في علاقات الدول العربية مع بعضها بعضا. وهذه التحديات ليست جديدة ولا تقتصر على تلك التي ظهرت حديثا من خلال لجوء السلطة السياسية في العاصمة نواكشوط إلى نسج علاقات خاصة مع «اسرائيل» متجاوزة بذلك القرارات العربية الصادرة عن مؤسسة الجامعة. فالعلاقات مع «اسرائيل» هي الجديدة في الموضوع إلا أن أساسها يعود الى سلسلة توترات داخلية واضطرابات حدودية مع السنغال فتحت مرارا الملف القومي للهوية الموريتانية.
موريتانيا دولة مسلمة دينيا إلا أنها مركبة قوميا من مزيج غير موحد من مجموعة قبائل عربية وبربرية وافريقية الأمر الذي نقل التوتر الداخلي الى حدود الصراع العنصري (اللوني) والاضطراب الحدودي الى نوع من المواجهة العربية الافريقية. السنغال أيضا دولة مسلمة إلا انها قوميا يغلب عليها الطابع الافريقي بينما الجانب العربي من هويتها محدود النسبة والتأثير.
هذا الخلاف الحدودي الموريتاني - السنغالي هدد مرارا الوحدة الوطنية وكاد أن يؤدي في أحيان كثيرة الى انقسام أهلي لوني بين الافريقي والعربي. وبسبب تعقيدات الصراع ارتبكت الجامعة العربية وفشلت في تكييف نفسها مع مشكلة مركبة تتداخل فيها السياسة مع الأيدولوجيا القومية والهوية الدينية مع الانتماء القبلي - اللوني. واسهم الارتباك العربي وتردد الجامعة ومخاوف الدول العربية من تحول المشكلة من مسألة داخلية (الصراع على السلطة) الى صراع لوني مفتوح على الحدود العربية - الافريقية في ترك موريتانيا فريسة الطموحات الدولية. ووجدت فرنسا والولايات المتحدة وبعدهما «اسرائيل» في مسألة الصراع على الهوية مناسبة سياسية للاختراق من خلال محاربة «العروبة» و «التعريب» انطلاقا من نظرية تقول: بأن العرب مجرد كتلة من العنصريين يريدون فرض هويتهم التاريخية على مجموعات سكانية لا صلة لها بثقافتهم وتراثهم.
شكلت موريتانيا واحدة من المداخل الدولية للهجوم على العرب والعروبة والفكرة العربية واستفادت الدول الكبرى من التوتر الداخلي الذي وصل الى حدود الحرب الأهلية (العنصرية واللونية) والاضطراب الحدودي مع السنغال لايجاد منطقة نفوذ لـ «اسرائيل» لمشاغلة الجامعة العربية في مشكلات جانبية وطرفية بعيدا عن مركز الصراع الحقيقي في فلسطين.
وبسبب ضعف الجامعة العربية، بعد حرب الخليج الثانية في العام 1991، وعدم قدرتها على «حل» مشكلة معقدة كالمسألة الموريتانية لجأت مؤسساتها الى تجاهل الموضوع وتركه يتداعى من دون تدخل عربي حتى لا تتحول نواكشوط الى ساحة حرب عربية - افريقية تستدرج اليها الدول العربية واحدة بعد أخرى.
الا أن الصمت العربي لا يعني ان المشكلة غير موجودة. فالنزعة المضادة للعرب والعروبة في موريتانيا نمت، مستفيدة من ضعف الجامعة العربية يقابلها نمو نزعة عربية متطرفة اعتمدت نصوص حزب البعث (القومي) والفكر الناصري الذي يتحدث عن وحدة الدوائر الثلاث (العربية، الافريقية، والاسلامية) للدفاع عن السلطة في اطار الصراع على تحديد هوية البلاد. فموريتانيا من الدول العربية القليلة التي تتماهى فيها السلطة مع الهوية وأحيانا تصل الى حد التطابق. فمن يحكم موريتانيا يحدد هويتها أو أنه على الأقل يغلب جوانب معينة من عناصرها الثقافية المركبة على جوانب أخرى. وهذا الأمر يمكن أن نلاحظه في الصومال وجيبوتي وجزر القمر وأخيرا اريتريا وأحيانا نجده في السودان وتحديدا في جنوبه. فهذا الاختلاط على الحدود نقل السياسة من اطارها الأيديولوجي (المؤسساتي) الى اطر ثقافية تتداخل فيها مسألة الهوية مع موضوع الصراع على السلطة. وتصبح فكرة السيطرة على الدولة نقطة مركزية للدفاع عن الهوية.
وبسبب هذا التداخل بين حدود الهوية ومسألة السلطة نجد أن الحركة الاسلامية في موريتانيا مثلا ضعيفة قياسا بالنزعة القومية العربية التي وجدت في نصوص البعث وخطابات عبدالناصر أدوات حادة في المواجهة الداخلية أو في الدفاع عن الهوية سواء في الصراع الأهلي أو على الحدود مع السنغال. فالعروبة عند هذه التيارات القومية في موريتانيا هي الاسلام والدولة هي الهوية. هذا هو واقع الأمر بينما التاريخ الاسلامي غير ذلك تماما. فابن خلدون مثلا يتحدث في «مقدمته» قبل 500 سنة عن «رد العرب الأفاريق» أو «الأفاريق العرب» حين لاحظ التحولات الاجتماعية (التكيف الطبيعي الثقافي) التي طرأت على القبائل العربية بسبب تداخلها مع القبائل الافريقية. كذلك لاحظ الأمر نفسه حين التقط تلك التحولات نفسها التي طرأت على القبائل الافريقية بسبب تداخلها (زواج ومصاهرة) مع القبائل العربية. وبسبب ملاحظاته تلك استحدث ابن خلدون مصطلح «العرب الأفاريق» أو «الأفاريق العرب» للاشارة الى ذلك الاختلاط الذي انتج مجموعات سكانية عربية وليست افريقية... ولكنها في النهاية مسلمة وتنتمي الى هوية دينية واحدة.
آنذاك لم تكن النزعة القومية في معناها المعاصر قد ظهرت. فالقومية كانت نسبة الى قوم (أقوام) ولا معنى سياسيا لها كما هو حاصل اليوم على الضفاف العربية - الافريقية. موريتانيا في هذا المعنى أحد أبرز النماذج الذي تشكل تحديات حقيقية لمعنى جامعة الدول العربية المعاصر ودورها الخاص في قراءة حديثة لملفات سياسية تتعلق بهوية الجامعة ودور هذه «المؤسسة القومية» في صوغ ثقافة جديدة تبدأ بتحديث أنظمتها الداخلية لتعطيها فرصة للتحرك مستقبلا على مشكلات طارئة أو مزمنة. والمسألة الموريتانية هي نقطة في بحر من المشكلات تغطي المنطقة من محيطها الى خليجها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ