العدد 277 - الإثنين 09 يونيو 2003م الموافق 08 ربيع الثاني 1424هـ

هل سيكون الاستغراب فاتحة لعهد جديد؟

الاستغراب وهاجس القرن الجديد:

في كتيبه الجديد «من الارتباك إلى الفعل: التحولات العالمية وآثارها العربية، دار النهار،2003» يدعو غسان سلامة إلى تأسيس «الاستغراب» الذي يضاهي استشراق الغرب والذي ترتبط فيه المعرفة بالسلطة كما بين إدوارد سعيد في «الاستشراق». يكتب غسان سلامة في خاتمة كتيبه السالف الذكر - وبتبسيط تفرضه العجالة - ما يأتي: علينا أن يكون لدينا استغراب يضاهي استشراقهم فتكون معرفتنا بالغرب بمستوى دراسته الطويلة لنا ولأفكارنا ولمجتمعاتنا ولتاريخنا ولقدراتنا. وهذا يعني نقلة حازمة في نوعية تعليمنا. فإذا كان هاجسنا في القرن العشرين هو انتشار التعليم بمختلف مستوياته فهاجسنا في القرن الجديد يجب أن يتركز على انتاج المعرفة وليس الاكتفاء بانتشار ما هو متوافر لنا منها على اكبر عدد من ابنائنا. وانتاج المعرفة يبدأ بالتعرف على الدقيق، العلمي، الرصين على الآخر وعلى الآخر الغربي بالذات. ما يدعو له غسان سلامة، أن تكون معرفتنا بالغرب معرفة دقيقة ورصينة على حد تعبيره، وليس مجرد غربنة للغرب وذلك على غرار شرقنة الشرق بحسب توصيف إدوارد سعيد والذي راح ينعي بدوره غياب المؤسسات الفكرية في الشرق العربي التي تجعل من الغرب موضوعا للدراسة.

يقول سعيد: إنها لصدمة موقظة أن نجد، على سبيل المثال، أنه فيما توجد عشرات من المنظمات لدراسة الشرق العربي والاسلامي في الولايات المتحدة، فليس ثمة مؤسسة واحدة في الشرق لدراسة الولايات المتحدة، وهي أعظم المؤثرات الاقتصادية والسياسية إطلاقا في المنطقة. وأسوأ من هذا، لا يكاد يكون ثمة من معهد ذي مكانة حتى متواضعة في الشرق مكرس لدراسة الشرق نفسه، ويضيف سعيد في كتابه «الاستشراق» بقوله: «إنه ليس ثمة من مؤسسة تعليمية عربية واحدة قادرة على مضاهاة أماكن مثل اكسفورد وهارفرد وجامعة كاليفورنيا أو جامعة لوس أنجلس في دراسة العالم العربي، دع عنك أي موضوع آخر عير شرقي».

إن غياب المؤسسات الفكرية والتعليمية العربية التي تجعل من الغرب موضوعا للمعرفة والدراسة هو ما يقلق غسان سلامة الذي يجعل من هذا الغياب شاهدا على عجز مزمن وعلى ركود علمي في مؤسساتنا التعليمية التي تحتاج من وجهة نظره إلى نقلة نوعية وحازمة تدفعها إلى انتاج المعرفة لا استهلاكها، إلى معرفة الآخر الغربي لا تقليده، وهذا هو دور علم الاستغراب الذي سبقه في الدعوة إليه حسن حنفي مع بداية عقد التسعينات من القرن المنصرم، ففي كتابه «مقدمة في علم الاستغراب، 1992» والذي أخذ صيغة بيان من أجل الاستغراب راح حسن حنفي يتساءل ماذا يعني علم الاستغراب؟ ومن وجهة نظره التي تلتقي مع وجهة نظر غسان سلامة أن علم الاستغراب يوضع في مقابل الاستشراق من جهة، والرد على المركزية الأوروبية من جهة ثانية وذلك بهدف ضرورة التحول من النقد إلى الابداع.

ما يقلق حنفي، هو انتشار ظاهرة التغريب والتي يمتد أثرها، ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم، والتي من شأنها أن تهدد استقلالنا الحضاري، بل امتدادها إلى اساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة وفن العمارة... الخ، ولذلك فهو يهدف من وراء وضعه لأسس وقواعد علم الاستغراب، إلى الوقوف في مواجهة التغريب المستشري في حياتنا الذي تقوده ما سماها ينجامين باربر بـ «أحصنة طروادة الجديدة»، وعلى جميع الصعد الحضارية واليومية، وإلى الحد من حضور الاستشراق في حياتنا (يربط إدوارد سعيد تفشي الاستشراق في حياتنا بتفشي ظاهرة الاستهلاك). من هنا تأكيد حنفي مرارا أن الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل والنقيض للاستشراق، فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الآخر الغربي) للشرق، فإن ما يهدف إليه علم الاستغراب هو فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، وكذلك الجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر، ووضع حد لظاهرة الاجتياح الثقافي التي يقوم بها الغرب للشرق والتي تدعو إلى مزيد من القلق الذي يعكسه حنفي وسلامة وسعيد.

يدرك حنفي أن الاستغراب لن تكتب له الغلبة بين ليلة وضحاها، فهو يحتاج إلى أجيال من الباحثين، على حد تعبيره، وإلى جيل من المتعلمين تعليما جديدا كما يقول غسان سلامة، وذلك بهدف جعله «تيارا عاما في البلاد» كما يقول حسن حنفي، وعندها ومن وجهة نظر حنفي، ستحدث أمور كثيرة منها السيطرة على الوعي الأوروبي، أي احتواؤه بداية ونهاية، وذلك من خلال دراسته على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ، ومنها ايقاف العزو والثقافي الذي يتعرض له العالم العربي الاسلامي والذي يروج له الكثيرون تحت راية الحداثة والعولمة وهذا ما يثير قلق حنفي وهو يراقب التشوهات الفكرية والثقافية التي طالت الثقافة العربية، يكتب: أصبحت الثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة ظاهرة تدعو للانتباه. فالعالم هو الذي يعلم التراث الغربي، والعلم هي المعلومات الوافدة من الغرب. بل ولا يستطيع الانسان ان يكون مجددا إلا إذا تعلم الوسائل الغربية. أصبح العلم نقلا، والعالم مترجما، والمفكر عارضا لبضاعة غيره. ووجدت طبقة هشة من الأفكار والمذاهب والنظريات طائرة فوق الواقع لاهي مستمدة من الموروث القديم ولا هي نابعة من الواقع المباشر وتنظير له. وتتضارب المعلومات وتتعارض النظريات، ينفي بعضها بعضا ويحار الباحث أمام الكثير من هذه الافكار والمذاهب المنتشرة فوق الواقع المجتثة الجذور من أرضها، والمنتزعة من واقعها الخاص الذي نبتت فيه، كيف يختار؟ وما هي مقاييس الاختيار؟...».

كان إدوارد سعيد قد حذر في خاتمة «الاستشراق» من سوء الفهم الذي قد يلحق بنقده لنظام الاستشراق، والذي قد يفسر على أنه دعوة للاستغراب، ومن وجهة نظره «أن الجواب على الاستشراق ليس الاستغراب» ولكن حسن حنفي يرى أن الاستغراب هو الجواب على الاستشراق، فهو يقع على الضد منه، لا بل أنه يضعه بأنه خير وسيلة للهجوم، فعلى الشرق أن يكف بأن موضوعا للآخر، وأن يرفض الدخول إلى قاعة المحكمة الاستشراقية والتعبير لإدوارد سعيد والتي لم تكف بعد عن سوق المزيد من الاتهامات للشرق، والتي نعثر عليها في خطاب إعلامي غربي مرذول يستقي معظم بواعث التعبير عن هواجسه من المكتبة الصلبة والصلدة التي كونها الاستشراق عن الشرق والتي قادت إلى شرقنة الشرق. وهذا ما يراه غسان سلامة الذي يدعو إلى استغراب عربي يضاهي الاستشراق الغربي ليكون فاتحة لعهد جديد، لنقل معه لجيل جديد يقطع مع حالة الانبهار بالغرب التي عرفها الجيل الذي سبقه ويؤسس الوقت نفسه لمعرفة جديدة بالآخر الغربي لا تكون حكرا على النخبة بل تمتد إلى جيل بكامله. والسؤال هل ستشهد بدايات القرن الجديد بدايات علم الاستغراب؟ أم أن الأمر لا يزيد عن كونه «طوبى» من طوباويات الفكر العربي الايجابية والتي من شأنها أن تبشر بولادة علم الاستغراب؟

في كل الأحوال يظل التحدي الذي ينشده غسان سلامة قائما ومشروعا في زمن تراجعت فيه المشروعات؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً