لا يعرف بالضبط أين هو مكمن الخلاف بين محمود عباس (أبومازن) والفصائل الفلسطينية. هل هو على رفض الفصائل تسليم أسلحتها ووقف إطلاق النار مع «إسرائيل» أم هو على رفض الفصائل النتائج السياسية التي توصل إليها رئيس الحكومة الفلسطيني مع ارييل شارون في العقبة بحضور الرئيس الأميركي.
ثمة غموض في المسألة. والغموض استغله الرئيس جورج بوش للقول إن هناك «قلة قليلة» ستقوض عملية السلام في «الشرق الأوسط». فالرئيس الأميركي يرى أن كل الخلافات تم حلها وأن كل صاحب حق أخذ حقه وبقيت فئة لا يعرف حجمها تعاكس تيار السلم وتريد تقويض كل ما بناه من «قيم» تدعو إلى المصالحة وإنهاء الصراع في غمضة عين.
الرئيس الأميركي يدرك، قبل غيره، أن كلامه مجرد بضاعة فاسدة يسهل تسويقها في الولايات المتحدة قبل 17 شهرا من الانتخابات الرئاسية، إلا أنه من الصعب بيعها في منطقة «الشرق الأوسط» كما يريد أن يسميها. فالسلام الذي يريده لا يمكن أن يصنعه جانب واحد ويكون في النهاية على حساب طرف واحد. فالسلام هو نتاج توازن المصالح الذي يبدأ بتراجع كل طرف عن برنامجه والبدء في تأسيس مشروع برنامج مشترك يأخذ في الاعتبار حقوق الشعب الفلسطيني مقابل مصلحة «إسرائيل» في العيش بهدوء في المنطقة كدولة عادية من دول «الشرق الأوسط».
هذه التسوية لم تحصل حتى الآن. «إسرائيل» ترى في نفسها دولة غير عادية وهي لأنها دولة خاصة وتمتاز بخصوصيات في تكوينها وعلاقاتها المميزة مع الإدارة الأميركية، يرى شارون (وأمثاله) أن دولته ليست على مثال دول «الشرق الأوسط» وبالتالي يجب أن تعامل معاملة خاصة ومتميزة تعطيها أفضلية على غيرها من الدول المجاورة.
هذه «الأفضلية» تلعب دورها في تعطيل عملية التقدم في السلام، لا تلك «القلة القليلة» التي ذكر الرئيس بوش أنها قد تعطل مسار التسوية في «الشرق الأوسط».
هذا هو الموضوع السياسي الذي يجب أن يقلق الفصائل الفلسطينية في عملية تفاوضها الداخلي أو حوارها مع محمود عباس. بينما الجوانب الأخرى التي قيل إنها سبب المشكلة والرفض والممانعة فهي ليست مهمة لأنها أصلا غير موجودة... وإذا وجدت فإنها لا تؤخر ولا تقدم في موازين القوى في وقت باتت القوات الأميركية (المؤيدة تقليديا للمشروع الإسرائيلي) تحتل دولة عربية تقع على بعد كيلومترات عن فلسطين.
المضحك (والمحزن) في الموضوع أن الفصائل الفلسطينية تستدرج من دون انتباه للوقوع في فخ المصطلحات الأميركية (الإسرائيلية في جوهرها) التي تطرح سلسلة أفكار لا صلة لها بالواقع. الجانب الأميركي مثلا يطالب بوقف إطلاق النار بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني كشرط للبدء في المفاوضات وتطبيق خطة الطريق. المضحك... أن شارون يدعي الموافقة ويقوم بسلسلة مبادرات (مسرحيات) بالانسحاب من هذا الشارع إلى آخر ومن هذا الحي إلى آخر ويطلق سراح مئة معتقل ليظهر أمام الرأي العالمي أنه «حمامة» سلام لا تريد الحرب في المنطقة. والمبكي... أن فصائل المعارضة الفلسطينية ترفض وقف إطلاق النار حتى تظهر المسألة أمام العالم وكأن هناك معركة جدية في الساحة وصلت إلى حد دقيق في موازين القوى العسكرية وأن الجانب الفلسطيني أحدث ما يشبه توازن الرعب وباتت المعادلة صعبة إلى درجة أن هناك ما يشبه الالتباس في درجة تعادل القوى.
المضحك أن بوش يتحدث عن وقف لإطلاق النار، والمبكي أن الفصائل الفلسطينية صدقت الكلام ورفضت وقفه... بينما الواقع أن المصطلح نفسه ليس دقيقا، فوقف إطلاق النار يكون عادة بين طرفين متعادلين في موازين القوى وهذه الصورة لا تنطبق على الموضوع الفلسطيني. فما يحصل في الضفة والقطاع هو اجتياح إسرائيلي دائم للأراضي التي يفترض الانسحاب منها بناء على القرارات الدولية و«اتفاق أوسلو». فالصيغة يجب أن تكون وقف العدوان وليس وقف إطلاق النار، لأن إطلاق النار يأتي أصلا من جانب واحد والطرف الآخر لا يملك سوى الحجارة وبعض الأسلحة القديمة التي لا تصلح إلا للصيد. وكل ما تملكه الفصائل الفلسطينية من سلاح لا يعادل حجم ما تتسلح به دورية إسرائيلية من قوات الاحتلال.
المضحك أيضا أن «إسرائيل» طالبت أبومازن بجمع أسلحة الفصائل الفلسطينية وتسليمها إلى قوات مراقبة دولية. والمبكي أن الفصائل استدرجت للوقوع في فخ المصطلحات الأميركية فرفضت تسليم أسلحتها في الوقت الذي يعرف الجميع أنها لا تملك إلا السلاح الخفيف الذي لا يقدم أو يؤخر في مواجهة أقوى جيوش «الشرق الأوسط». الفصائل الفلسطينية، كما يبدو من مراقبة الانتفاضة وتداعياتها، لا تملك السلاح «المخيف» وأنها لو كانت تملكه لاستخدمته في وقف العدوان الإسرائيلي والاجتياح اليومي لأرتال الدبابات أو القصف المستمر بالمدفعية والطيران للأحياء السكنية.
إذا، ما المقصود بكل هذه اللعبة... لعبة استدراج الفصائل الفلسطينية نحو السقوط في فخ المصطلحات الأميركية. فالقول بوقف إطلاق النار غير صحيح، لأن الواقع يؤكد ضرورة المطالبة بوقف العدوان والاجتياح للمناطق الفلسطينية. والقول بجمع السلاح وتسليمه ليس دقيقا لأن الوقائع تؤكد عدم وجوده وإلا كانت الفصائل استخدمته دفاعا عن النفس في أضعف الإيمان.
إذا ما المقصود بكل هذه اللعبة؟ هل المطلوب وقف الهجمات التي تقوم بها الفصائل ضد القوات الإسرائيلية وأحيانا في مناطق مدنية شرطا للبدء في ترتيب انسحابات تناسب «خريطة الطريق»؟ أم أن المطلوب هو الاستسلام الكامل للشروط الإسرائيلية أساسا للعلاقات التي تريد إقامتها دولة «غير عادية» مع «دويلة» غير قابلة للاستمرار والحياة؟
يبدو أن شارون يريد أكثر من ذلك... يريد أيضا رأس ياسر عرفات جنبا إلى جنب مع رأس الفصائل الفلسطينية الأخرى، وهذا ما يظهر من خلال استدراج رئيس الحكومة الفلسطيني إلى معركة داخلية لا منطق سياسيا لها سوى المزيد من الإضعاف للسلطة الفلسطينية.
المضحك ـ أن الجانب السياسي من المعركة غير واضح للرأي العام، ففي الوقت الذي يجب أن تنصب فيه الجهود على معالجة الكوارث العامة التي يمكن أن تطلقها «خريطة الطريق» يثار الكلام المبهم والغامض في جوهره عن رفض الفصائل الفلسطينية المعارضة تسليم أسلحتها ووقف إطلاق النار مع «رجل السلام» شارون. وهذا هو الجانب المبكي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 275 - السبت 07 يونيو 2003م الموافق 06 ربيع الثاني 1424هـ