تحرير سوق الاتصالات فتح الحوار على مصراعيه بشأن التحديات المستقبلية التي نواجهها. فمن ناحية، فنحن مطالبون بفتح الأسواق أمام الاستثمارات العالمية، ومطالبون أيضا بنقل الاقتصاد إلى القطاع الخاص بصورة أكبر مما هو عليه، اذ تسيطر الدولة على قرابة ثلاثة ارباع اقتصاد البلاد، والمفترض ان تقل إلى اقل من النصف لكي تتمكن الدولة من أداء دورها الرقابي المحايد بينما تتحرك السوق على أسس اقتصادية قابلة للنمو.
غير أن فتح الاسواق وتحريرها يعني اتخاذ قرارات لم يتعود عليها المجتمع البحريني، مثل التسريحات. وفي الدول الأخرى تلعب الدولة دور الحماية من الوقوع في الهاوية بالنسبة إلى المواطن اذ توفر ضمانا اجتماعيا يرحمه خلال فترة البحث عن عمل آخر، كما تساند الدولة الباحث عن عمل في إعداد نفسه للمقابلات واعادة تأهيله بما يتناسب ومتطلبات السوق. وهذا هو المطلوب حاليا من الحكومة، أي الاسراع في تطبيق نظام الضمان الاجتماعي للباحثين عن عمل ولمن لا يستطيعون الحصول على معاش مستمر يضمن لهم عيشا كريما.
ولكن نظرة سريعة إلى ما حدث - ونحن في بداية تحرير سوق الاتصالات - نرى أن شركة الاتصالات (بتلكو) لديها خطة تسريح 250 شخصا بينما الشركة الجديدة (إم تي سي فودافون) لديها خطة توظيف 400 شخص. كما ان هناك شركات اخرى تسعى إلى تقديم خدمات اتصالات وبالتالي هناك مزيد من التوظيف في مؤسسات صغيرة تنشأ لخدمة هذا القطاع المؤهل للنمو.
ولعلنا نسعى إلى تأكيد موضوع تأهيل البحرينيين باستمرار، ذلك لأن الدراسات تؤكد ان أهم ما لدى البحرين هو الطاقات البشرية القابلة للتدريب. وقد كانت الدراسات تشير إلى ان البحرين بامكانها استقطاب الاسواق المختلفة والتحول إلى سوق نامية في عدد من القطاعات، منها: التعليم والصحة وتقنية المعلومات والاتصالات والتدريب والسياحة والصيرفة والإعلام والصناعات الخفيفة.
وجميع هذه القطاعات بحاجة إلى عاملين أساسيين، أولهما: الموارد البشرية التي تزخر بها البحرين، وثانيهما: البنى التحتية. والبنى التحتية هي مسئولية الحكومة التي يجب عليها ان تستثمر أموال الموازنة العامة في المـشروعات الكبرى التي تمد تلك القطاعات بإمكانات وتسهيلات تتوافر للجميع وتفسح المجال للمستثمر المحلي والاجنبي لدخول السوق من دون معوقات بيروقراطية ومن دون متطلبات فاسدة مثل اشتراط إدخال أحد المسئولين شريكا في العمل لكي يتحرك مشروع ما.
ان البحرين لديها الأهلية ولديها الأفكار ولديها البشر، وما هي بحاجة اليه هو الاستراتيجية الاقتصادية الموحدة التي توجه جميع الوزارات وجميع المؤسسات العامة. الأفكار المطروحة لتحويل البحرين إلى مركز للقطاعات المذكورة، تم الأخذ بها من دول خليجية مجاورة، وليست دبي فقط من أخذ بها، وانما الدول الخليجية الاخرى ايضا بدأت تتحرك في هذا الاتجاه. ولا غرابة في ذلك، فنحن نتحرك في سوق «عولمية» (وليست عالمية)، وعولمة السوق تعني انتهاء الحدود الجغرافية مع الأيام وانتقال رأس المال إلى حيث توجد عوامل النجاح.
عوامل النجاح الموجودة في البحرين كثيرة، وواحد منها لا يتوافر في دول الجوار، وهو العامل البشري المحلي، وهو أهم استثمار لمستقبلنا. وتماما كما هو الحال مع دول أخرى مثل سنغافورة، فإنه اذا أحسن تحريك وتوجيه وتدريب هذه الموارد البشرية وحفزها نحو الانتاجية والجودة فإن الاسواق تتحرك وتنمو لانها بحاجة إلى العامل المعرفي الذي لا توفره المكنة أو الكمبيوتر وانما يوفره الانسان المتدرب والماهر الذي ينتمي إلى هذه الأرض قلبا وقالبا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
لدينا كفاءات في مجالات كثيرة ولكنها لم تتحول إلى مركز يجتذب الآخرين بالدرجة المطلوبة. فلدينا اطباء كثيرون متخصصون في زراعة الأعضاء وفي علاج كثير من الأمراض المتفشية في المنطقة، ويمكن ان نوجد لهم السوق المناسبة تماما كما استطاعت الاردن مثلا استقطاب أموال خارجية من الباحثين عن علاج لأمراض معينة، وتماما كما كانت الهند في الماضي تستقطب المرضى.
لدينا أطباء أسنان يفوق عددهم ما تحتاج اليه البحرين، ولكن ليس اكثر مما يحتاج إليه الخليج، ويمكن ان تتطور هذه المهنة (بمساعدة الحكومة) لكي تتحول البحرين إلى مركز رفيع المستوى في هذا المجال. لدينا متخرجون في مجالات الفن، ويمكن تطوير ذلك الى انتاج تلفزيوني (كما هو الحال في سورية والكويت) بعيدا عن سلطة وزارة الاعلام التي ربما تكسر رقبة الفنانين والمبدعين بدلا من تشجيعهم.
لدينا سياحة بيئية لو قررنا فتح المجال أمام المواطنين والسياح لزيارة كل البحرين: جزر البحرين (تقول الكتب ان لدينا اكثر من 33 جزيرة) وحدائق البحرين وسواحل البحرين وجنوب البحرين، الخ، بدلا من إغلاقها وتحويلها إلى أملاك خاصة لا يستفيد منها إلا القلة. لدينا القدرات في تقنية المعلومات وفي النشر والترجمة وفي كثير من المجالات ... ولم يبقى إلا وجود استراتيجية حكومية لمساندتها والغاء جميع المعوقات البيروقراطية التي تخلقها الوزارات يوميا بدلا من المساعدة على النهوض
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 275 - السبت 07 يونيو 2003م الموافق 06 ربيع الثاني 1424هـ