العدد 272 - الأربعاء 04 يونيو 2003م الموافق 03 ربيع الثاني 1424هـ

معالجة «التمييز» حصانة هذا المجتمع من التشظي

عبدالنبي سلمان comments [at] alwasatnews.com

إن التعامل مع قضايا الشأن العام في بلادنا لم يعد يحتمل المزيد من المراوغة والالتفاف والاحتماء خلف تخريجات ومسميات لا تتفق أساسا وطبيعة النوايا التي يخفيها البعض ويظهرها البعض الآخر حين التعامل مع القضايا اليومية للمواطن البحريني، فالأمور من وجهة نظرنا واضحة وجلية ولا تحتاج إلى فذلكات من شأنها أن تزيد من حدة الصراع الاجتماعي وتأجيجه، بل نحتاج إلى العمل على إيجاد حلول عملية وموضوعية للمعضلات المعاشة.

أعلم جيدا أن الأمر ليس سهلا بتاتا، وعملية التحولات السياسية والاجتماعية تتطلب وقتا كما تتطلب نوايا وأفعالا تنبثق أساسا من شعار أسمى، طالما نادينا به وهو شعار محبب لنا جميعا... إنه شعار «الوحدة الوطنية» الذي نادت به حركتنا السياسية منذ فجر تاريخها المجيد والحافل بالكثير من الدم والدموع، إلا أننا نتفهم جيدا أن طريق الحرية والكرامة كثيرا ما تمر فيه متاريس وعقبات ومتاعب إنسانية ومجتمعية.

إن مفهوم الوحدة الوطنية يجب ألا يبقى شعارا جميلا فقط، تختفي خلفه حقوق وكرامات تهدر لأولئك الطيبين من أبناء شعبنا الذين التصقوا بتراب هذه الأرض وتمرغوا في شظف العيش بانتظار غد أجمل، فهذا الشعب قدره أن يعيش متجانسا، متحابا، مترابطا وطامحا نحو أجمل الأيام التي لم يعشها بعد، وألا يعيش ممزقا ومتصادما دائما لصالح حسابات وسياسات عفى عليها الزمن، أو لصالح فئات تتطفل على عذاباته التي آن لها أن تنتهي.

ليس جديدا ما سأقوله، فالكل جدير بفهم تلك المعاني السامية لوحدتنا الوطنية وأبعادها المستقبلية وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية ولكن المهم أن نقوله جميعا لأبنائنا وأحبائنا وزملائنا وأصدقائنا ورؤسائنا ومرؤوسينا، وقبلهم لقادتنا ورموزنا، نقول لهم بصوت وطني صادق: إن خيارنا الأوحد يكمن في وحدتنا الوطنية القائمة على أسس صريحة من الكرامة الوطنية والإخلاص للوطن وأهله وتعزيز روح المواطنة.

من هنا فإن قضيتنا التي نحن بصدد الحديث عنها هي قضية التمييز والمحسوبية بكل ما تمثله من تدمير حقيقي لكل ما هو جميل وطيب على وجه هذه الأرض الطيبة، وعندما أتحدث عن التمييز فأنا أنطلق من منطلقات وطنية واضحة لا ترتضي مداهنة هذه الطائفة أو تلك، أو السكوت عن أخطاء هذه الشريحة أو تلك الفئة، إن ما يهمني في الأمر في البدء والخاتمة هو الوطن بكل ما يمثله من عنوان أشمل يجب أن تتوارى خلفه وفيه كل دعوات التمييز والمحسوبية والتهميش وإذلال البشر والحط من كرامتهم والتعامل مع بعض شرائحهم بأساليب متعالية وبغيضة لا تنتمي إلى حضارة العصر ولا إلى منطق السماء.

ويهمني هنا أن أشير إلى أن دستور مملكتنا قد أكد في أكثر من مادة وبند أهمية العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتعزيز المواطنة ففي المادة (16) البندين (أ، ب) أوضح الدستور أن الوظائف العامة هي خدمة وطنية وفي بلادنا تحرم فئات واسعة من خدمة وطنها في الكثير من وزارات وأجهزة الدولة، بدواعٍ غير منطقية ولا تنتمي إلى عصر الإصلاح والتحديث الذي نعيش فصوله حاليا بقيادة جلالة الملك، الذي أكد مرارا أهمية أن يعامل جميع المواطنين على قدم المساواة والعدل، إلا أن شواهد الواقع المعاش تقول عكس ذلك مع الأسف الشديد. فها هي وزارات الدولة جميعها من دون استثناء تقريبا وبعض الدوائر الرسمية وقد عددتها جميعا في مداخلتي في مجلس النواب أخيرا، وكذلك الكثير من شركاتنا الكبرى والكثير من المصارف التجارية والإسلامية الكبرى أيضا، تمارس سياسة تمييز واضحة نعرف جميعا تفاصليها اليومية. وتقوم على تخريب البنية التحتية لوحدة شعبنا التي بناها على مدى تاريخه النضالي الحافل والتي امتزجت فيه طموحات وتطلعات جميع فئاته نحو غد أفضل وكيان اجتماعي متماسك وقوي.

إن الجدول المرفق والمعتمد على التوثيق بالأرقام يؤكد ما ذهبنا إليه حين طرح قضية التمييز أخيرا داخل المجلس النيابي أمام وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، والذي نفاه قطعيا، بل وأصر على أننا نثير النعرات الطائفية كما قال. هذه التهمة الجاهزة لدى عدد من مسئولينا الذين تستثيرهم الكلمة الحرة عندما تخرج صادقة.

فلغة الأرقام هنا تتحدث بشكل صريح وواضح عن كل ما ذهبنا إليه، بل اننا طلبنا حين عرض المشكلة داخل المجلس من ديوان الخدمة المدنية أن يبرهن على صحة ما ذهب إليه الوزير ويقوم بتقديم كشف كامل عن التعيينات الإدارية في مختلف أجهزة الدولة حتى ولو على مدى السنوات الخمس الأخيرة، وسنكون راضين عن نتائج ما سيقدمه لنا الديوان، إلا أن واقع الحال الذي لا يسر بحسب الأرقام المعروضة بما يثبت صحة ونزاهة ما ذهبنا إليه من أن التمييز يمارس بشكل سافر ورهيب ومن دون توقف، بل انه ازداد قسوة وحدة منذ انبلاج فجر الإصلاح في بلادنا حتى بتنا نعتقد جازمين أن أثر الخلل في معظم المؤسسات يحتاج إلى قرارات جريئة ومسئولة وسريعة تعيد الأمور إلى نصابها من أجل أن ننصف مبدأنا الدستوري المتعلق بتكافؤ الفرص والعدالة والمساواة أولا، ولكي نحفظ لنسيجنا الاجتماعي لغة التسامح ونبذ حال التنافر التي هي وليدة تلك السياسات الخاطئة.

إن ما نطلبه ليس عسيرا بل هو في غاية السهولة، فنحن لا نطلب أن يهمش المواطن البحريني، بل على العكس، نحن نطالب بإنصاف أبناء الوطن جميعهم من تلك السياسات الخاطئة، وما نحتاجه ليس قوانين وتعاميم مكتوبة، فلدينا منها الكثير ولله الحمد، ولكن ما نحتاجه هو إيجاد آليات تطبيق نزيهة. وعادلة تحترم كرامة الإنسان وتعلي من شأنه وتعتبره فعلا لا قولا حجر الزاوية في بناء نهضتنا الوطنية، وركنا من أركان مفهوم الأسرة الواحدة الذي تضخم كثيرا في السنوات الأخيرة ولكننا لم نجد له مكانا على أرض الواقع.

سبق أن أوضحت أن السبب الرئيسي لتراجع مملكتنا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلى الأصعدة كافة، هو تغييب الكفاءات الوطنية والعقول الواعدة وتهميشها بالدرجة الأولى، لقد عدد وزير شئون مجلس الوزراء (ممثل الحكومة) في معرض رده على ما طرحته في قضية التمييز الكثير من القرارات والتعاميم التي لا أختلف معه بشأنها، ولكنه لم يعط اعتبارا لما طالبته به من آليات التطبيق وعدالتها، ولأننا لا نريد لدستورنا ولقرارات حكومتنا أن تبقى حبرا على ورق، فإننا بكل صراحة نريد تفعيلا حقيقيا لها على الأرض، تراعى فيه سيادة العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، لكي نكون مطمئنين إلى عدالة التطبيق أولا، وهنا أرى أهمية تذكير الجميع، بمن فيهم الحكومة بإدانة لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لمملكة البحرين في العام 1997 فيما يتعلق بقضايا التمييز.

ولكي يصبح وجه البحرين مشرقا وغير مدان، فإننا نحتاج حتما إلى إرادة بحجم إرادة وإخلاص جلالة الملك وشعبنا العظيم، لإزالة كل أثر للتمييز وتهميش البشر ومصادرة الحقوق، مستمدين كل ذلك من تجارب الكثير من الدول التي وعت جيدا الانعكاسات الخطيرة لسياسات التمييز، وأمامنا تجربة جنوب إفريقيا ونظام الفصل العنصري، وكيف جرت التحولات هناك نتيجة توافر الإرادة الشعبية والسياسية، وأمامنا أيضا تجربة ماليزيا، هذا النمر الآسيوي الذي أذهل صناع القرار في مختلف بقاع العالم، فهذه الدولة وعت منذ البدء أهمية إلغاء نظام الامتيازات بين فئات شعبها من الهنود والصينيين والمالاويين كي ترسي نظاما اقتصاديا واجتماعيا نحو التماسك الحقيقي وبصورة متزايدة علاوة على الانعكاسات الإيجابية لمسيرة التنمية لديها، وهناك الهند بكل تراثها الإنساني وحضارتها العظيمة أيضا وكيف ذابت فيها الفوارق الإثنية ليكتمل شعبها في عقد يؤسس لمشروعات تنموية وحضارية عملاقة تقارع بها أرفع الدول الصناعية المتقدمة.

هذه بعض الأمثلة لدول تحترم شعوبها، وتقدر عاليا قيمة البشر، وتعلي من شأن تراب الوطن، ولا أريد أن أذكّر بمثال لبنان بكل ما يحمله من مآس إنسانية واجتماعية.

أعتقد أننا لسنا استثناء من ذلك، بل بإمكاننا عمل أكثر مما عملوا جميعا، ولكن بشروط لابد لنا من مواجهة استحقاقاتها، وأول تلك الشروط هو الاعتراف بمعضلة التمييز وحجمها، لكي يصار إلى تفكيك التمايز الاجتماعي والطبقي الحاد، ومن ثم التأسيس لمفاهيم عادلة تراعي المبادئ الإنسانية التي أرستها الأديان السماوية، ومنها ديننا الإسلامي الحنيف بكل قيمه وتعاليمه، ثم انها تراعي كل القوانين والأعراف المحلية والدولية والاتفاقات التي وقعتها حكومة البحرين لمكافحة وجوه التمييز كافة، وخصوصا أن البحرين ومنذ أكثر من عامين تعيش فترة انفراج سياسي واجتماعي، لذلك فإن قضية التمييز بكل ما تحمله من منغصات اجتماعية وسياسية واقتصادية ستبقي همّا ثقيلا لابد له أن يزاح بإرادة المخلصين من فوق صدر شعبنا الصابر الطموح، الذي ينبذ التمييز والمحسوبية بين جميع فئاته وشرائحه.

من هنا فإن اهتمامنا بهذه القضية لا ينحصر على فئة دون أخرى، فنحن نرى أن هناك شرائح واسعة من الطائفتين الكريمتين قد أصابهما التهميش والتمييز، ونعرف أيضا أن الآثار ربما تكون متفاوتة في حجمها وانعكاساتها وبشاعتها بين طائفة وأخرى تبعا للحسابات السياسية المرسومة سلفا لمثل هذا النهج الظالم والذي نراه، أي التمييز كالهيكل المعوج والمسخ الذي بنيت عليه الكثير من ظلامات البحرين وإرساء ثقافة الخوف وسياسات التميز والإفقار والحط من كرامة الإنسان وضرب المواطنة في الصميم وإلغاء الناس والعيش على عذاباتهم دون استحياء وخجل. وتلك هي سمات قانون أمن الدولة السيئ الصيت كما تعلمون.

لنكن صرحاء، إن سياسات التمييز تلك هي السبب في إفقار فئات واسعة من أبناء شعبنا في القرى والأحياء والمدن، وإلا ما معنى أن توجد لدينا 500 معلمة عاطلة عن العمل فقط في القرى وينتسبن إلى فئة معينة من شعبنا! وهناك الكثير من الأمثلة والبراهين.

لا أريد أن أبث الإحباط، ولكنني أقولها صريحة من فوق هذا المنبر: إن مشروع البحرين الإصلاحي الواعد الذي يقوده جلالة الملك بإخلاص، سيبقى رهنا بحل قضية التمييز أولا وقبل كل شيء إذا لم يتم الشروع سريعا في تطب

العدد 272 - الأربعاء 04 يونيو 2003م الموافق 03 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً