العدد 272 - الأربعاء 04 يونيو 2003م الموافق 03 ربيع الثاني 1424هـ

يقرأ عطر العائلة... وينثر الموت على الجميع

فريد رمضان في أمسية السرد

العدلية - المحرر الثقافي 

تحديث: 12 مايو 2017

نظمت أسرة الأدباء والكتاب في إطار فعالياتها الثقافية مساء الاثنين الماضي قراءة سردية قدمها القاص فريد رمضان، وذلك في إطار مساعيها المتنوعة لإبراز النتاجات الإبداعية المحلية.

وبدأت الأمسية بتقديم من الكاتب فهد حسين، تحدث خلالها عن فريد رمضان مستعرضا تجاربه الكتابية، ومقدما قراءة في الخطوط الرئيسية التي تميز بها عمله في مختلف تجاربه القصصية أو الروائية، مثنيا على جسارة التجربة واقترابها من عوالم مختلفة بشكل جذاب.

وبعد ذلك قرأ رمضان أجزاء من كتابه الأخير «عطر أخير للعائلة» وهو عبارة عن سردية يتناول فيها قصة عائلته في علاقتها بالموت... ولكون النص غير منشور بعد، نقدم للقارئ المقتطفات التي قرأها رمضان في الأمسية، إذ خص الوسط بها:

كان يا ما كان

أقول له أنت، يقول لي أنت.

أقول له أنا، يقول لي بل أنا.

فأقول له: فكيف الأمر؟

فيقول: كما رأيت.

فأقول فما رأيت إلا الحيرة فلا تحصيل مني ولا توصيل منك.

فيقول قد أوصلتك.

فأقول ما بيدي شيء.

فيقول هو ذاك الذي أوصلت.

ابن عربي

فصل العطر

مطلع الأسوار:

تنسى الجهات التي تختبر الدم، وهو يطلع مثل الطل في ليل النشيد، تنسى زهرة الثلج وهي تغادر مرفأ القلب قبل أن تهتف لما يصنعه الموت في جسد يختبر دقائقه الأخيرة، قبل أن تخطف اللقاء الأخير معه. تجالسه مثل مديح الملوك، وتنفي روحك لتصنع من هذا الورد عطرا أخيرا. تنسى الجهات وتذهب من دون حراس، وندماء، من دون هتافات أخوية تتوالد مع الاختلافات اليومية.

بين أخٍ وأخته.

بين أخٍ وأخيه.

بين دمٍ وصاحبه.

كنا نريد أن نراك حيا مثل من مات منا قبل الموت. ومثل من عاش منا قبل الهزيع. كنا نريد أن نراك، أن ننسى علاقاتنا الصغيرة بك وأنت تدلف إلى الحوارات التي عبرناها قبل جسر الحب، وبعد ليل النجمة التي غادرت ليلة الذبح. كنا نريد أن نقرأ ما نسيناه من تفاصيل علاقاتنا، بين الخبز والصباح، بين السمك وحنين الجيران وهم يتسامرون حول نجمة الدار ليلة مجيئك ضارعا بالنسيانات.

لا امرأة تضمك بزعترها، لا أم تهديك ثدييها، لا شريك يحتمل الطريق وأنت تغادر كي لا ترانا في أحزان الصبّار، وفي سعف النخل الذي جزه أبي في ليلة القدر، دون مراعاة لمنزلة الليلة الكريمة.

كان يقول: هذا سعفٌ.

وكنا نقول: في شهر رمضان يا أبتاه!

فيقول: لا يضير الصوم سفك الدماء. خذوا أحزان يعقوب، ولا تلتفتوا للطريق. هذا أخوكم، أصغر الورد، أكثر العطر، خذوه إلى الملك الأثير كي يكمل قصيدته عن العائلة. كي يغلق باب منفانا، وينسحب بأرواحنا التي لملمها طوال هذه السنين. جدار زاخر بكل ما يمليه الزمن علينا. في مساكن العجزة وهم يأخذون السيرة من طعم التمور ورواة الرز. من الأثقال الطاعنة وماضي الرياح الشمالية وهي تنكسر مثل الرمان على أكتاف من رآنا بين أجنحة الأحزان وأسوار البيت.

مطلع الشبابيك:

نأتي لزيارتك كي لا ننسى، فتختبر ساعاتنا عبر أسئلتك التي لا تكف عنها:

- كيف أمي؟

- مازالت لا تعرفك.

- ولكنني هنا، في زمن ينفطر بعشقها.

- مازالت لا تعرفك.

- لعلني تغيرت كثيرا

- ربما لأنها شاخت.

- ربما عصفت بها الأحزان.

وتنسحب، تتركنا في هُدنة القبر نوزع عطر المشموم على الموتى. حين نعيد درس زياراتنا الأسبوعية، كان واضحا أن العابرين يلتقون كثيرا على مشارف من مات قبل هدنة الحياة أو بعدها. تساقط من شجرة العائلة منسحبا نحو شجرة المنفى. دون أن يستأذن الريح وهي تصفق جدران البيت برسائلها، التي تهاوينا وتتعبنا ونحن نقرأها، رسائل مصابة بالنسيان، تحتفي بتهديداتها اليومية في اختطاف من تبقى منا.

- لمن جئت هذه المرة؟

- لأجملكم.

- لقد أتعبنا الحزن؟

- ليكن الحزن بوصلة العائلة.

- بعد كل هذا!

- ومازال في الأفق الكثير.

- خذ الجهة الأخرى.

- ليس ثمة غيركم يستحق كل بهاء هذا الموت المعطر.

ربما تنسى الجهات،

أبناء وآباء وأحفاد، في سريرة البيت، حيث الأصوات والنعال، وسجادة الصلاة، وعقال أبي، وما تبقى منه كغواص اختبر موانئ الإشارات الغامضة.

تعتزل أمي فضاء العائلة، تنصت لفريد الأطرش وهو يغني، فلا تسمع سوى بكائها. تتقدم أنت بروحك، أو ما تبقى منها لتسخر من هذه العاطفة الجياشة. لم تدرك جحيمها الخاص لأنك تنسى الجهات، لم تعد شبابيك البيت تستر أرواحنا وهي تهب في ليالي الصيف، حين نغزل سيرة الحب بكثير من عصير الليمون.

ربما ننسى الجهات ليباغتنا بشكل مناسب، يمتحننا كلما نسينا الدرس، يموج بنا ساعة الحسرة وفيض الحديد في صليل النار، قبل أن ينفذ الحديد وتخمد النار.

تتوقف أمي عن الغناء... تصمت قليلا... قليلا

ثم ترتل سورة ياسين.

مطلع الصناديق الخشبية:

هل رأيت من يتذكر الموتى؟

هل رأيت أحلامنا بين أحلامهم. سنوات الفراق لا تكفي لكي نعذر للموت أخطاءه التي يكابر فيها. ولا تكفي لكي ندعوه يرافقنا في سفر من لا ينسون، ولا يكبرون، ولا يختبرون الحب، والجنس ومشاهدة الأفلام السينمائية.

تنحل المسامير ونحن نعالج قلعها من خشب كان أبي يمعن في تنجيره ليرقع به صناديق الخشب الكثيرة التي يملأها بكل ما يصادفه في مسيرته اليومية إلى عمله الأخير، حين كان يروي حدائق الشوارع بماء حياته، ولا يكف عن التقاط بقايا أفراح الآخرين، وتكديسها في هذه الصناديق.

بعد كل هذا الوقت، لم تنفتح على أفراح كبيرة. تصدأ المسامير، فلا نقدر على إمساك هذه الأفراح التي ستظل عالقة هناك في ظلمة الخشب وهو يعتصرها كي تظل هادئة تحلم بانحلال المسامير بعد ذهابنا جميعا.

لا عمرك يكفي كل هذه اللقاءات القصيرة التي تعبر نهر العائلة وهي تبدل راياتها، ولا يكفي ما سبقنا من الأحاديث البعيدة على قمم التهارم. كلما سبقنا أخ أو أخت، ليؤثثا قبور القادمين من السلالة الأخيرة لقصيدة البيت، بين الحرائق وزهرة الياسمين، تحسسنا أرواحنا إن كانت قابعة في سلة البلح، وفناجين القهوة الصباحية، التي نرتشفها بمتعة من غافل الموت واكتشف نهارا جديدا. لا عمرك يكفي ولا تكفي حكايات من لا أسماء لهم وهم يتوغلون في أمواج البحر كي يقتنصوا حكايات الصيادين وهي ترتحل مع أشرعة مراكبهم. حكايات لا تنتصر على النسيان والفقد وصوت أبواق الموت، وذكرى الشواهد وهي ترتص ببعضها لتستأنس الوقت المتبقي لكل هذا الليل الذي ينثر عطره الأخير على من مات قبل الموت وبعده.

- هل قلت لنا شيئا أخيرا يا أخي؟

- قد متُّ قبل موتكم.

- إذا من هناك مع العائلة؟

- ربما أخ آخر لم تحبسه السنون.

- هل يستطيع أن يؤنس أمي في وحشتها؟

- ربما يستطيع، ربما يعجز.

- لكنها تعبت!

- وماذا أفعل لها. اسألوا ربكم؟

- هل يسمع صوتنا؟

- ربما.

- إلى أين أنت ذاهب؟

- إلى حيث أجد روحي.

فصل الألم:

العطايا:

ولسوف يعطيك فترضى،

جنة الخلد، سماء النسيان، ضريح المعبد،

وكل شيء، كل شيء.

امضِ وسوف يعطيك

قلبا له الحكمة

وزادا له البطش

وعينا لها الرؤيا

وجسدا هو المقصد.

قف أمامه، واطلب، ولسوف يعطيك

ماء الجنة ليس يشرب، وأنت في عطشك المحموم.

ثلاثة أيام والبحر أمامك.

اطلب ولسوف يعطيك.

خبزة الليل، قصعة الفقير، قبلة المنسي، أحلام الكتاب.

اطلب.

الرضيعة:

سنة أخرى من الدم،

يشحذون الميراث ليتأملوا الرضيعة وهي تختزل حليبها المخبأ في الأواني النحاسية المرفوعة عن الصبية الذين يترعون الموج إلى باحة البيت متناسين رائحته، دمه المسفوك من الشاطئ على الطريق الترابي، بين الحجر والصبّان ومواعيد الصيادين الذين يعودون خائبين كل مساء، وفي سلالهم فضاء الصيد.

سنة أخرى للرضيعة وهي تفتكر درب العائلة بين أخ يجيء وآخر يغادر، بين دموع تسمع خطواتها وهي تنزل السلم الخشبي، حيث يجلس الأب الطاعن في الفقر، وأم تبيع الماء، وتغسل ملابس النساء المتزينات بالخلاخيل والبراقع.

يقول الأب لزوجته عند الفجر: ماذا لدينا للرضيعة؟

فتلف الأم تمرة في قماش وتدسها في فم الرضيعة وهي في المهد تنسج أحلاما لا تأتي.

يبحث الأب في النهارات عن سعف وخشب يقذف به البحر ليصنع منه جدارا يحمي البيت المتصدع، والرضيعة في مهب الريح تقصف بها فلا تبصر السنين المقبلة.

رضيعة مثل الياسمين، تنثر الطيب في البيت فلا نراه.

مرضى على المائدة:

وضعونا على المائدة، نحن سلالة العائلة المصابة بالوهن. دقوا فصوص الثوم نيئا، مزجوه بنار زيت الزيتون حتى صار مرهما دافئا. مسحوا به على أجسادنا العارية وكلما انتهوا من واحد انتقلوا إلى الآخر.

نحن مرضى المائدة اليومية، يسقونا ملعقة صغيرة من زهر البابونج كل صباح. لم تنفع معنا أدوية أو أعشاب. جاؤوا بالنار والحديد وكوونا بها، فلم نعثر على أجمل الفتيات في الحي. ولم تعثر الفتيات على أجملنا، من أجملنا.

ماذا نقول لهذا الإنشاد اليومي على عتبات مائدة الطب، نخابر بعضنا كلما اشتد الألم ونتعاتب حينما نكتشف علاجا نتوهم به أحلاما جديدة، تأخذنا نحو مطالع الأبواب التي توصد عادة في وجوهنا.

كل يوم

كل صباح

نفتتح المائدة على جسد جديد منا، نقترب منه لننظر عجزه ووهنه وهو يختبر عصارات جديدة من حب اليانسون، وثمار الخرنوب وقشر الرمان المجفف. يخضع لاختبارات علَّه قبل أن يموت يوصلنا إلى حياة جديدة تمكننا من كسب سنين أخرى.

كل يوم

كل صباح

نعرف خفقان ثوب «النشل» وهو يرف فوق سطح الدار، نستبشر خيرا. نعدو تحت سماء الحي مرددين أغنية، تركض معنا في فضاء الخلوة التي نمل منها. فيفاجئوننا بصور لأطباء نزلوا الحي في حملة تطعيم جماعية. نسأل الخرافة عن حكايتنا التي استهلكها الألم الغريب، فيخبروننا عن هشاشة الحلم.

نحن مرضى الموائد العائلية التي تبسط كل أصناف الطعام والألم على بساط واحد يتيح للحي كله أن يرى ويستبطر ويتذوق ما يلذ له من جحيمنا المكابر. لنا رغبة وآده: ألا يمر العذاب على أجسادنا إلا معطوفا ومنفردا. إلا مرهونا ومرتهنا بأول الفجر، بأول السفر.

نحن الرهان الأخير لمرضى العائلة البهية برحيلها المبكر. السلالة الحائرة بين قطفة الروح وقطفة القبل، ومعارك الجسد.

فصل اللقاءات:

مطلع الترحال:

صنعنا الحلوى الشعبية

دخلنا البحر

نهمنا على الشاطئ، ودخنا مع الموج، واختلفنا، مثل الطريق الذي يعتمر جذور سلالة العائلة.

طريق طويل من سفر خائب إلى مدن وقرى جديدة. كنا نصنع تاريخنا الخاص مثل مكتشفين خائبين في أرض صوان لا سقف لها ولا أرواح تتجاسر في سعة الرحيل. نقذف بأبنائنا في بحر ومستنقعات وأشرعة، نسمي الطرقات بأسماء النخل، وندفن في كل أرض اسما جديدا ونواصل الترحال.

أرض الله...

مخلوقات الله...

ولا نملك سوى بحر وأكواخ غامضة نبنيها في سهو الليل كي لا يكتشفنا حراس الحدود، لا النسيانات تقصينا عن حبالها، ولا تعذرنا تلك التذكارات التي نتركها قرب شواهد من أنجبناه ودفناه في أرضها. نتبع نجمة الشمال فتضيع من بين ذكورنا الجهات. صحنا مرة: هذه أرضنا، وهذا ماؤنا، وما غدا بين العشية وضحاها هو لسلالة الخبز والتمر المجفف.

هنا ولدنا، وهنا سيكتمل ميلادنا المؤجل.

هنا وردة، ونساء، وأطفال البحر هناك.

نكتشف أسماء الصواري والشطآن المؤجلة لمواعيد الحب والموت. نضع الشوق في أحضاننا ونتلو عليه ما حفظناه من القرآن، وما نسينا منه، ولا نكترث للدم النازف، ولمن تأخر عن موعد الرحيل المتجدد.

مرات ومرات ننسى زرعنا وحظائرنا وأصواتنا التي تبعثرت في هذا الرحيل الطويل.

هناك

مطلع ما سُجِّي:

يُمسد جسده بزعفران،

قبل ذلك يُكمّد بملحة إيرانية تتم تحميتها بنار ضارعة في الجمر، ملحة تقبض بما يغص به العظم قبل بزوغ الفجر، قبل مسيرة مؤذن الحارة الأعمى، قبل مواء قطط ساهرة، أو نباح كلاب أضاعت فرصتها في التزاوج. يضعون الملحة على النار كلما عصف به الألم، يمتحنون كل الأعشاب المخلوطة بالماء كي يستبشروا صحوة المريض الذي يقضي الليل في كبح بكائه.

يقول الأب:

- لقد أصبحت رجلا، عيب عليك هذا البكاء.

- لكنه الألم.

- في الألم فوائد يا بني.

- أية فوائد هذه؟

- يغفر لك ربك كل خطاياك يا بني.

- ومتى سيكف عن ذلك؟

- استغفر ربك أيها الأزعر.

- جسدي متورم بآلامه يا أبي.

يأخذون الملحة الإيرانية بعد احمرارها ويمررونها على مفاصل الجسد وهو يستجدي الليل. حين يبدأ المؤذن في دعوة الرجال لصلاة الصبح، ونفض أجسادهم من روائح النساء، يُتركُ في ليل الجحيم يرطِّب جسده بدموع امرأة أنجبته في العذاب، تمسح عليه بزعفرانٍ، وزيتٍ وملح.

كأنه ذبيحة قبيل الطبخ.

جسدٌ مسجّى

ربما بين الوقت وفضاء الاحتضار

كي لا يصيبه الأذى

كي تغفل عنه العيون.

ليل آب:

ليس جنة

ولا هذا ليلٌ يرأفُ بنجومه

لا تخف يا محمد ولا تفزع

كأن لمكان مهيأٌ لك

بحر، وليلُ آب، وسماءُ الموت

تمدد واسترح واترك هذا النهار لمسألة الليل

ستولدُ من جديدٍ وفي صرختكَ أدراجُ البيت

وأنت ترتبُّ أحلامكَ

ليلٌ مثل قلب الرضيع

وهو يضيع.

ليلُ آب وأنت تمدُّ يديكَ نحو شجرة القلب

تنتزعُ ورقتكَ الصفراء وتتمددُ في هدوءٍ

دون وداع.

لا تخف يا محمدُ ولا تجزع

ليس هذا سوى ليلٍ جديد.

طريق ابن عربي:

قال لي ابن عربي: قف أمامي. فوقفت.

قال لي ابن عربي: اطوِ كتابك. فطويت.

قال لي ابن عربي: ضع قلبك في الصحن، فوضعت.

قال لي ابن عربي: اذهب إلى الركن، فذهبت.

قال لي ابن عربي: أشعل شمعتك، فأشعلت.

قال لي ابن عربي: اجرف قامتك نحو العائلة، فجرفت.

قال لي ابن عربي: لا تنسى حروف اسمك...

فنسيت





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً