العدد 271 - الثلثاء 03 يونيو 2003م الموافق 02 ربيع الثاني 1424هـ

من بطرسبرغ إلى العقبة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن فهم الحركة الدبلوماسية الكبيرة للرئيس الاميركي جورج بوش من قمة بطرسبرغ إلى قمة العقبة؟ وهل يمكن وضع تلك الحركة في اطار الترتيبات السياسية التي اضطُرت الادارة الاميركية إلى القيام بها لضمان استمرار مصالحها مع الدول الكبرى (المضادة للحرب على العراق)؟ أم انها محاولة التفاف لاستيعاب ردود الفعل التي نهضت ضدها وتريد الآن ضبطها في سياق الأمر الواقع الذي نجم عن احتلالها العراق؟

هناك اكثر من تفسير، وكلها تقع تحت مظلة الهيمنة الدولية الجديدة للولايات المتحدة. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اكتشف الفارق بين قوته العسكرية التقليدية وقوة أميركا لم يتردد في توقيع اتفاق للحد من الترسانة النووية والاسلحة غير التقليدية مع خصمه التقليدي. الرئيس الفرنسي جاك شيراك - حرصا منه على عدم استفزاز الرئيس الاميركي واثارة غضبه - لم يشر إلى مقولة «عالم متعدد الاقطاب» واكتفى بالتركيز على صيغة التفاهم مع واشنطن كما هو الامر الواقع من دون اشارة إلى ضرورة تنوع مراكز القرار الدولي.

فروسيا تراجعت عن ربطها بين قوتها النووية وغير التقليدية، وبين عودة واشنطن إلى الدخول مجددا في سباق تسلح تقليدي لا تقوى موسكو على مجاراته.

وفرنسا تراجعت عن مطالبتها بضرورة العمل على تنويع مصادر القرار الدولي واحترام توازن المصالح في اطار سعيها إلى عالم متعدد الاقطاب حتى لا تشكل المطالبة نقطة توتر في العلاقات الاوروبية - الاميركية.

فخوفا من الاستفزاز اكتفت الدول الكبرى، وتحديدا روسيا والمانيا وفرنسا، بالسكوت لشراء رضى ادارة اميركية اتسمت بالقصور الذهني وعدم نضج وعيها السياسي. حتى دولة مثل الصين اكتفت بمراقبة قمة ايفيان للدول الثماني على رغم ادراكها مخاطر تهور ادارة البيت الابيض وانسياقها وراء منطق القوة لفرض استراتيجيتها العامة على الدول الكبرى.

اذن هناك ما يشبه التواطؤ الدولي على الصمت وعدم بوح السر حتى لا تتوتر العلاقات وتنتكس مجددا في ظل توازن رعب تميل دفته العسكرية إلى دولة واحدة في العالم تقودها إدارة لا تتردد في استخدام قوتها المتفوقة لحسم أي خلاف قد ينشأ في أية دائرة من العالم.

وعلى هذا كيف يمكن فهم حركة الرئيس الاميركي الدبلوماسية من بطرسبرغ إلى العقبة بعد ان صدرت إشارات تطمين من الدول الكبرى صاحبة المصلحة في وجود عالم متعدد الاقطاب؟

يمكن قراءة الحركة الدبلوماسية في سياق حلقات متفرقة اولها إعطاء الولايات المتحدة ضمانات للدول الكبرى بعدم تكرار فعلتها السابقة في العراق من دون العودة إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة. وشرط هذه الضمانة الاميركية موافقة الدول الكبرى (دول الضد) على نتائج الحرب والاعتراف بواقع الاحتلال.

ثاني معاني الحركة هو محاولة المصالحة مع مجتمع دولي وجد في الاستراتيجية الاميركية الهجومية سياسة طائشة تنقصها العقلانية وتسيطر عليها نزعة متهورة لا تتردد في استخدام القوة في حروب غير عادلة ولا تملك شرعية دولية ولا تستند إلى معلومات دقيقة تبرر قيامها.

ثالث المعاني هو محاولة التوفيق بين هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي وتكرار خرق واشنطن الشرعية الدولية، وبين احترام الحد الادنى من المصالح الدولية للدول الكبرى التي لا ترى الامور من المنظار الاميركي ولا تزن المشكلات الاقليمية بميزان «البنتاغون» نفسه. واشنطن تريد الآن - بعد ان ضربت ضربتها في العراق بأقل الخسائر والتكاليف - استدراك فعلتها من خلال شبه استدارة لدول الضد على شرط ان توافق الدول الكبرى على ما فعلته في العراق.

فالمحاولة التوفيقية الاميركية هي حركة دبلوماسية كبيرة تريد منها إعادة تركيب المصالح مع غلبة كاسحة لجانب الولايات المتحدة. فأميركا تريد ترتيب علاقاتها في معادلة توفيقية: للولايات المتحدة وحدها نسبة النصف، والنصف الثاني للدول الكبرى كلها.

المناصفة الاميركية - الدولية التي أُنتجت في القمتين (بطرسبرغ وايفيان) تعيد طرح فكرة التوفيق في المصالح في اطار غلبة اميركية كاسحة. فالعالم برأي إدارة واشنطن ليس متعدد الاقطاب وأميركا لا تساوي في حصتها نسبة متعادلة مع الدول الخمس الكبرى، بل حصتها وحدها تساوي بمفردها مجموع حصص الدول الكبرى (لها النصف وللدول الكبرى النصف الآخر).

قراءة المناصفة هذه ضرورية لمعرفة مجرى السياسة الاميركية المتوقعة في منطقة «الشرق الاوسط» والمسار الذي يمكن ان تأخذه المباحثات في قمتي شرم الشيخ والعقبة. فالملاحظ حتى الآن اختفاء تمثيل كل القوى الدولية التقليدية وعدم حضورها إلى شرم الشيخ والعقبة. فهذا الغياب له سلسلة معانٍ لابد من التفكير فيها لقراءة ما لم يذكر علنا في بطرسبرغ وايفيان. وانفراد الولايات المتحدة بساحة «الشرق الاوسط» ودخولها إلى المنطقة لاعبا وحيدا في تقرير سياسة الدول «الشرق أوسطية» بناء على خطة «خريطة الطريق» الفلسطينية - الاسرائيلية يفتح الباب مجددا لانفراد واشنطن في تقرير مستقبل المنطقة بناء على خرائط جديدة توضع لمختلف الدول من مصر إلى تركيا ومن سورية إلى ايران.

ابتعاد روسيا وأوروبا والأمم المتحدة عن حضور مفاوضات شرم الشيخ والعقبة ليس امرا جيدا. وفرض الولايات المتحدة منطقها في التفكير على الدول الكبرى يعني عمليا مساعدتها من بعيد في فرض شروطها السياسية على دول منطقة «الشرق الاوسط» ومن دون ضمانات دولية.

وعدم وجود ضمانات دولية - تعبر عن نفسها بحضور الدول الكبرى وتمثيلها السياسي إلى جانب الأمم المتحدة - يضع كل الاتفاقات التي يمكن ان تصل إليها الاطراف على توازن غير مستقر يرتبط إلى حد كبير بمزاج الادارة الاميركية واحتمال انقلاب استراتيجيتها بين رئيس وآخر. فالضمانات الأميركية ثقيلة الوزن إلا انها ليست كافية لاعطاء الصفة الشرعية لها ومنع «اسرائيل» بسبب علاقاتها الخاصة مع واشنطن واداراتها من التلاعب بها. والخوف الاقليمي من الفراغ الدولي في «الشرق الاوسط» له ما يبرره بحال تغير مزاج الادارة الاميركية، أو تحركت «اسرائيل» مستفيدة من ذاك الفراغ لاختبار قوتها العسكرية في منطقة تمر بهدنة مؤقتة بعد ان اضطربت نتيجة اختبار الولايات المتحدة قوتها في العراق.

المنطقة اذن تنتظر ما سيقوله بوش في شرم الشيخ والعقبة وما ستسفر عنه المفاوضات واللقاءات بمعزل عن جامعة الدول العربية وسورية ولبنان. بعد ذلك يمكن الحكم على النتائج وتفسير الحركة الاميركية الدبلوماسية بين ان تكون بداية مصالحة مع العرب أو مجرد استراحة لهجوم جديد في المنطقة؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 271 - الثلثاء 03 يونيو 2003م الموافق 02 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً