كلمات ومصطلحات جديدة أخذت طريقها إلى القاموس السياسي العربي الحديث، كلمات ما أنزل الله بها من سلطان... كلمات تزكم الأنوف وتشمئز منها النفوس! كلمات من مثل: كامب ديفيد، أوسلو، مدريد، وأي بلانتيشن، غزة وأريحا أولا، خريطة الطريق.... إلخ. هذه الكلمات والمصطلحات، وإن كانت تختلف فيما بينها في بعض التفاصيل، فإنها تنضوي كلها تحت بند واحد من هذا القاموس، هو بند «خَانَ، يخُونُ، خيانة»!!
لقد تسببت معاهدة كامب يفيد العام 1979 في تشتيت الموقف العربي، وفقدان مصر كقوة رئيسية في الصراع مع «إسرائيل»، وكانت البداية بإقدام الأنظمة العربية على إضفاء الشرعية على الكيان الصهيوني بشكل أو بآخر. ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 ليوجه ضربة قاصمة أخرى إلى الموقف العربي العام على الصعيدين العسكري (السياسي، والنفسي) الفكري، فقد دخل اليهود أول عاصمة عربية منذ إقامة الكيان الغاصب. وفي أعقاب احتلال العراق للكويت واندلاع حرب الخليج وتحرير الكويت، وكنتيجة من نتائج عرض القوة في هذه الحرب، تم عقد مؤتمر مدريد في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1991 الذي دعا إلى مبدأ «مبادلة الأرض بالسلام»، ثم وقع ياسر عرفات اتفاقية أوسلو بتاريخ 13 سبتمبر/ أيلول 1993، وهي الاتفاقية التي عزلت المسار الفلسطيني عن المسارات الأخرى، ونتج عنها وضع مبادئ ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي ونواته «غزة - أريحا أولا». وبعد اتصالات سرية استمرت لفترة، تم توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في 26 أكتوبر 1994، لتخرج بذلك ثاني دولة من دول المواجهة من ميدان المعركة! وها نحن اليوم مع المشهد الجديد من مسرحية «ضمان وجود دولة إسرائيل»... مشهد «خريطة الطريق».
تخضع الخريطة لثلاث مراحل: المرحلة الأولى والتي من المقرر أن تنتهي هذا الشهر (مايو/أيار 2003)، ويتم فيها ضمن أمور أخرى تعيين حكومة فلسطينية جديدة، وإنشاء منصب رئيس الوزراء بصلاحيات معتبرة، ثم تنشر القيادة الفلسطينية إعلانا تعترف فيه بصورة لا تحتمل اللبس بحق «إسرائيل» في الوجود بأمن وسلام (!)، وتدعو إلى الوقف الفوري للانتفاضة المسلحة، وجميع أعمال العنف ضد الإسرائيليين في كل مكان. وتقوم الحكومة الإسرائيلية بتفكيك المواقع الاستيطانية التي أقيمت منذ إنشاء الحكومة الحالية (!)، وبقدر ما يتقدم التعاون الأمني، ينسحب الجيش الإسرائيلي تدريجيا من المناطق التي احتلت منذ سبتمبر 2000.
أما المرحلة الثانية، التي تبدأ من يونيو/ حزيران 2003، فمن ضمن بنودها عقد مؤتمر دولي عن احتمال إقامة دولة فلسطينية في حدود مؤقتة، ويكون هذا المؤتمر شمولي الطابع، يهدف إلى التوصل إلى سلام شامل في الشرق الأوسط، ثم استئناف المحادثات المتعددة الأطراف بشأن قضايا المياه والبيئة والتطوير الاقتصادي واللاجئين ومراقبة التسلح الإقليمي. وفي المرحلة الثالثة، التي ستستمر حتى العام 2005، فيتم فيها عقد مؤتمر دولي ثانٍ، وتبدأ المفاوضات بخصوص الحدود، والقدس، والمستوطنات... واستمرار التعاون الأمني المقبول والفعال (!) بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وتقيم الدول العربية علاقات اعتيادية مع «إسرائيل».
إن المستفيد الأكبر من كل عمليات السلام المزعومة هو الكيان الغاصب، وكلها تصب في خانة واحدة: التمكين لـ «إسرائيل»، مقابل إقامة كيان وهمي هزيل نقنع أنفسنا بتسميته «دولة فلسطين»، كيان يكون تحت رحمة العدو، وخاضع لمزاجية رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومزاجية الشارع الانتخابي اليهودي!
يقول عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عدنان عصفور ضمن حواره مع موقع (الإسلام اليوم): «لاشك أن الضغط الأميركي والصهيوني سيبدأ في طريق تحقيقه وتنفيذه مستغلا الحالة العربية المأسوية التي تمثلت بالانهيار السريع للنظام العراقي، وكذلك الرقابة الذاتية التي تسيطر على الأنظمة العربية الرسمية، والتي تتخذ موقف الابتعاد عن كل ما يزعج الدولة العبرية وأميركا، وتحقيق كل ما يريدون وما يرغبون. هذه الحقيقة التي فهمتها أميركا وإسرائيل تم استغلالها بفرض خريطة الطريق، والتي هي عبارة عن تسوية ظالمة ومجحفة للقضية الفلسطينية. والملاحظ أنه لأول مرة تسعى الحكومة الصهيونية بإلحاح لأن يسرع أبومازن في تشكيل الحكومة الفلسطينية، حتى تقوم أميركا بطرح خريطة الطريق، وبدأنا نسمع أصواتا من الجانب الصهيوني تنادي بضرورة وسرعة التعامل مع أبي مازن، إذ أعلن رئيس الوزراء الإرهابي شارون أنه سيكون سعيدا بلقاء أبي مازن بعد تشكيله الحكومة، وهذا الأمر إن دل على شيء، فإنما يدل على أن خريطة الطريق هي حل صهيوني أميركي خالص تماما لصالح الاستراتيجية الأميركية والحلم الصهيوني، والذي يهدف أساسا إلى افتعال وإيقاد الفتنة والحرب الأهلية في الشارع الفلسطيني، على خلفية أن هناك مشروعين في الشارع الفلسطيني لابد أن يتصادما، مشروع المقاومة ومشروع المفاوضات».
كما اعتبر احد قادة حماس، عبدالعزيز الرنتيسي، أن خريطة الطريق ستنتهي بالفشل لا محالة؛ لأنها ضد الشعب الفلسطيني.
إذا، فالخاسر الوحيد من خريطة الطريق هو الشعب الفلسطيني، لأن ما يريده شارون هو حرب يقوم بها بالوكالة عنه محمود عباس وحكومته وجهاز أمنه الداخلي برئاسة محمد دحلان.
ثم إن حكومة شارون - وعلى رغم الاتفاق المفترض - تسير في وادٍ وخريطة الطريق في وادٍ آخر، فقد شرعت هذه الحكومة منذ أشهر في السور الواقي الذي يصل طوله إلى 600 كلم، وهو ضعف طول الخط الأخضر الفاصل حاليا بين حدود فلسطين العام 1967 وفلسطين العام 1948، بسبب التفاف السور حول الجيوب الاستيطانية اليهودية داخل الضفة الغربية، ما يعني ببساطة بلع مزيد من الأرض الفلسطينية!
ولكن، يمكرون ويمكر الله... فمهما كان محمود عباس - أو غيره - مكيّفا من الناحية السياسية للتعاطي مع أجندة شارون، ومهما كان محمد دحلان - أو غيره - يريد أن يبني مجده على حساب الدم الفلسطيني، ومهما أصدر بوش من شهادات حسن السيرة والسلوك بحق العملاء والخونة، فإن الشعب الفلسطيني الذي فجر الانتفاضة الأولى والثانية دفاعا عن حقه ومقدساته، هذا الشعب المناضل الأبيّ لن يعجزه أن يسلك طريقا واحدا عبر خريطة الطريق هذه، فيفجر انتفاضته الثالثة، فيمزق خريطة طريق الخيانة شر ممزق
العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ