منذ الأول من يونيو/ حزيران الجاري بدأ أسبوع القمم. القمة الأولى كانت ثنائية جمعت الرئيسين الروسي والأميركي في مدينة بطرسبورغ (العاصمة التاريخية لروسيا). والثانية كانت قمة الدول الثماني في ايفيان (المدينة الصيفية في فرنسا). والثالثة ستبدأ اعمالها في منتجع شرم الشيخ المصري بمشاركة ست دول. والرابعة في العقبة (المنفذ البحري الأردني) وستضم أربعة اطراف.
إنه اسبوع القمم اذن. الأولى تطرقت إلى العلاقات الثنائية الروسية الأميركية التي توترت بعد وصول الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض في مطلع العام 2001. آنذاك وقبل ضربة 11 سبتمبر/ أيلول صعّدت الإدارة الجديدة مواقفها السياسية ضد موسكو مستخدمة ورقة سباق التسلح أساسا للابتزاز. الأمر الذي أثار غضب الرئيس فلاديمير بوتين معتبرا ان البيت الأبيض يتجاوز كل الاتفاقات والمعاهدات التي وقعت بين الطرفين للحد من سباق التسلح وتحديدا في مجال خفض الترسانة النووية. البيت الأبيض رد على الكرملين بتوجيه رسالة تعلن ان واشنطن ستكون في حِل من كل التزاماتها السابقة في مدة لا تتجاوز الشهور الستة. واعتبرت موسكو ان السياسة الجديدة هي خطوة هجومية أميركية تريد اغراق الكرملين في سباق جديد لا تقوى فيه على منافسة خصمها السابق الولايات المتحدة.
توتر الوضع بين الطرفين الى ان جاءت ضربة 11 سبتمبر بعد ثمانية أشهر من وصول الرئيس جورج بوش إلى البيت الأبيض. وكان الانقلاب الكبير في استراتيجية الأمن الأميركية، اذ استغلت واشنطن الضربة لتبرير كل سياستها الهجومية وتمرير مختلف قراراتها تحت سقف «الوجوم» الدولي من تداعيات العلاقات الدولية. فكانت الحرب على أفغانستان، ثم توقيع واشنطن سلسلة اتفاقات أمنية في شريط الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي وأخيرا نقل واستخدام القواعد العسكرية في دول بحر قزوين وشرق أوروبا (رومانيا وبلغاريا)... الأمر الذي اعتبرته موسكو مجرد خطوات تكتيكية ترمي الى تطويق روسيا وعزلها عن محيطها الجغرافي - السياسي.
ازداد التوتر بين الطرفين حين بدأت واشنطن تخطط للحرب على العراق تحت شعارات واهية وبأساليب ملتوية التفت حول الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن، الأمر الذي اضطر الكرملين إلى الوقوف في معسكر «دول الضد» المعارض للحرب فنشأ ما يشبه التحالف الضعيف مع المانيا وفرنسا وإلى حد ما الصين. إلا أن ذاك التحالف لم يصمد كثيرا أمام الهجوم الكبير الذي خاضته الولايات المتحدة ضد رغبة معظم دول العالم... فكادت ان تظهر أزمة دولية لو لم تستوعبها الدول المعارضة بدبلوماسية هادئة اتجهت اخيرا نحو المصالحة وترميم الاضرار الناجمة عن جنون كتلة الشر المتحكمة بقرارات «البنتاغون» القائمة على فكرتين حربيتين: الأولى «مكافحة الارهاب في كل مكان وزمان»، والثانية «الحرب الاستباقية» وأسلوب الضربة الوقائية التي تستبق الحدث بالهجوم عليه قبل وقوعه وحتى لو لم تكن الحرب عادلة في مبراراتها واسبابها.
أسهمت «حكمة» دول الضد في تخفيف حدة التوتر الدولي على رغم ان نتائج الحرب على العراق كانت كارثية على المستويين: الجغرافيا السياسية، وتوازن المصالح بين الدول الكبرى. فإن تلك «الحكمة» التي وافقت على التراجع والسكوت عن «الجنون» تحاول الآن اعادة صوغ مصالحها وفق استراتيجية الاعتراف بالأمر الواقع وترميم العلاقات الدولية التي أصيبت بأضرار بالغة على مختلف القطاعات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والمالية... وربما الشخصية والنفسية بسبب الاحقاد التي تراكمت خلال فترة الشد والجذب والتوتر بين صدور القرار 1441 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 وصدور القرار 1483 في مايو/ أيار 2003.
إذن القمة الثانية (ايفيان الفرنسية) هي قمة المصالحة لترميم مخلفات الاضرار الدولية التي تركتها الحرب على العراق وانفراد واشنطن بقرار خطير، على الضد من معظم دول العالم. وهي تأتي مباشرة بعد المصالحة الأولى الروسية - الأميركية التي أعطت بعض المعنويات للرئيس بوتين وأعادت له سلسلة اعتبارات بدءا من الاعتراف بأهمية روسيا العسكرية وعودة الولايات المتحدة عن قراراتها السابقة بالانسحاب من معاهدات الحد من التسلح النووي.
مصالحة بطرسبورغ الروسية - الأميركية (توقيع اتفاقات تنص على خفض ترسانة الصواريخ النووية) مهدت الطريق أمام المصالحة الثانية في ايفيان وهي طاولت الكثير من الجهات (فرنسا، الصين، وألمانيا) وتناولت جهات مختلفة منها الكراهية الشخصية التي وترت العلاقات بين بوش من جانب، وشيراك وشرودر من الجانب المقابل.
ترميم العلاقات الثنائية في بطرسبورغ، والدولية في ايفيان اعطى فرصة جديدة للرئيس بوش للانطلاق نحو ترميم العلاقات الاميركية مع بعض الدول تمهيدا لتمرير خطة «خريطة الطريق» الفلسطينية - الاسرائيلية.
فواشنطن تعتبر الآن ان سياستها الهجومية في دائرة «الشـرق الأوسط» بدأت تعطي ثمارها بعد الحرب على العراق واحتلاله وقبول الدول الكبرى (دول الضد) على مضض بالوقائع التي انتجتها المعركة على الأرض.
فالشرق الأوسط تحول الآن إلى منطقة خالية من ساحة التنافس الدولي بدليل ان بوش هو الرئيس الوحيد الذي يشارك في شرم الشيخ وفي قمة العقبة في وقت استبعدت فيه الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الروسي. فالرئيس بوش هو الحاضر الوحيد في القمم الاربع في بطرسبورغ وايفيان وشرم الشيخ والعقبة بينما رؤساء «دول الضد» لا حضور لهم في القمتين، كذلك لم يلحظ اي دور للاتحاد الأوروبي في بطرسبورغ حين بحثت الاتفاقات المتعلقة بالصواريخ العابرة للقارات والترسانة النووية.
الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة من دول العالم الكبرى موجودة في كل القمم. فالاولى ثنائية تركزت على الجانب العسكري وأوروبا قوية اقتصاديا وضعيفة في هذا الجانب. والثانية اقتصادية وروسيا قوية عسكريا وضعيفة في هذا الجانب. والثالثة في شرم الشيخ وهدفها تطويع الموقف العربي وعزل القوى العربية عن بعضها بعضا لتسهيل مرور المشروع السلمي في صيغته الاميركية وهذا ما اعترفت به أوروبا وروسيا بعد نجاح واشنطن في حربها على العراق.
والرابعة في العقبة وهدفها إعادة تركيب الوضع الفلسطيني في معادلة جديدة تبدأ من القبول بخطة «خريطة الطريق» وتنتهي في سياق لا يتكيف بالضرورة مع المصالح العربية. فالطريق الأميركي نحو فلسطين والعراق هو بداية معادلة جديدة قد تشمل منطقة «الشرق الأوسط» كلها في وقت غابت عنه دول الضد الكبرى وحضرت أميركا كل محطاته من بطرسبورغ الى العقبة.
انه اسبوع القمم... وكل قمة حملت عناوين مختلفة عن الأخرى... ولكنها كلها تصب تحت سقف مشترك: الحضور الأميركي في كل مكان وغياب المنافس الدولي عن مسرح «الشرق الأوسط»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ