يحدث فن بارنيت نيومان التجريدي لدى الكثيرين رد فعل مهيب واصيل. هنا لم يكن توم لوبوك متأكدا ما اذا كانت اعمال الرسّام طنانة فقط؟

اذ تبدو أعمال بارنيت نيومان الفنية خداعة وتدل على براعة في خفة اليد. وتعد عظمته الخرافية مجرد قصة لقابلية التأثر. تمنح رسوم نيومان ما يحلم به الكثيرون من محبي الفن الحديث منذ وقت بعيد: فن يشذب كل الفضلات ويحدث طفرة مباشرة وسامية. وبما ان انصار نيومان بعض من النقاد البارعين في منتصف القرن الماضي، فان عمله لقي تقديرات رفيعة للغاية. اعلن احد هؤلاء النقاد، ديفيد سيلفيستر «عندما اقف وانظر في فن نيومان، اعلم ان الفن برمته مجسم فيه».

يصنف نيومان عادة مع الفنانين التعبيريين في مدرسة نيويورك للفن التجريدي بعد الحرب من امثال، جاكسون بولوك، مارك روثكوك، ويلم دي كونينج... الخ. بالنسبة لهذه المجموعة، يعد فنه الاقل تعبيرا والاكثر تجريدية والاطول نزعة نحو التأمل. وسيرة نيومان عبارة عن نموذج بهيج للمبتدئين المتأخرين. ولد في العام 1905، وعانى أول ضربة قلب عندما كان في الاربعين من عمره قبل ان يضع الرسم على قماشه. ثم اصبح شخصية بارزة في مشهد، وتدريس، وكتابة، ومعالجة فن نيويورك (ترشح للعمدة في قائمة الثوريين). فيما بعد، ومع كسب زوجته للاموال، واصل نيومان فنه موطد العزم حتى وفاته، بعد معاناة ضربات قلب كثيرة، في العام 1970. ما اظهره نيومان في عروض (تيد مودن) يعد من اكثر الوظائف الفنية انتظاما؛ فيها الحد الادنى من التصور الفكري متبوع بادنى تطوير لذلك التصور. لقد اسس نيومان نموذجه ونمط فنه بسرعة شديدة. رسم اول لوحاته في العام 1949، إذ كانت ميزتها الوحيدة عبارة عن شريط رفيع رأسي يمر من الاعلى إلى الاسفل من خلال حقل من الالوان. اطلق على هذه السلسلة التأسيسية من اللوحات (ونمنت). ومن ثم كان من الصعب عليه ان يبتعد عن هذا الاجراء الاساسي. وتقريبا غالبية لوحاته اللاحقة عبارة عن ترتيبات لمجالات واسعة مقسمة بوسطة أربطة عمودية التي يسميها نيومان بـ «الأنطقة». هذا نوع اصلي للفن التجريدي، وهكذا ينجز بالتأكيد. المجالات والانطقة البديلة بعيدة من ان تكون خطوطا خامدة لشريط وسامي كبير جدا. انها دينامية ورائعة. احيانا، واخرى متناسقة تضع في فواصل وابعاد مثيرة، انها تحدث احاسيس بالانتشار والتقلص، الحصر والتقسيم، كتل ثابتة وحافات حادة. وربما خطوط حدود الرسم بين الاربطة. تغطي الشريط بحدة، او انها رسمت من دون اتقان، مع النطاق يفيض في الحقل، أو الحقل يتآكل في النطاق، هناك مواجهات حيوية بين الالوان. ومثل أي فن ذي مفردات محدودة للغاية، نجد فنه احدث كثيرا من متغيراته وتعديلاته الممكنة، وكل فرق واختلاف يظهر جسيما. انني لست متأكدا ما اذا كان فن نيومان مدعيا اصلا. ولكن ربما من المحتمل ان مثل هذه المناورة المختزلة الراديكالية تمثل من اجل رهانات وجوائز عالية. في الواقع، كثير من الفن التجريدي للقرن العشرين، يبدو مستمدا من فكرة أن الاشكال العنصرية الاولية يجب ان تحمل اهمية اساسية او مطلقة، مانحة خط ساخن إلى حقائق خارقة للطبيعة وثابتة. مع رسومات نيومان ربما تعتقد ان انتاجه ليس اقل ابدا من كونه رؤيوي. ومع اكتشاف تأثير نافذ في التقاء الشريط والاساس، فان انصار نيومان لا يعتقدون عموما في (قل) غصة الندامة. انهم يفكرون في ستار ايجار المعبد الثنائي، وعلامات الساعة. ويشجع نيومان نفسه هذا التجاوب، مما يدل على انه كيف انه يرى تجريداته. وتحدث عن سمو فنه واحيانا يؤكد المقياس الكبير للوحاته هذا الطموح، والاكثر من ذلك، الحافز الاساسي لنيومان، ان اعمدته ليست فقط عمودية، انها تنبعث من اللوحة من القمة إلى اسفل. تعد تنويهات للاتناهي، وتشير إلى المستويات العالية وإلى الاعماق، كما ان العناوين التي اطلقها الفنان على لوحاته اساسية، واسطورية ومفخمة دائما: العالم، نهاية الصمت، ابراهام، مراحل الصلب (14 مرحلة صلب للمسيح)، الاسم، العهد، الوعد، حواء، آدم، الطريق، يولسيس، اخيل، اوريل (على رغم ان هذه التسميات تحط من قدرها توقيعات اسم كامل يضعها نيومان في لوحاته وفي اكثر المواضع المثيرة). نعم، اعتقد هنا ان رسم نيومان هو على الارجح مدعي.

طبعا، لا يوجد سبب للاعتقاد في ادعاءاته، حتى لو وجدت نفسك مستحوذا بوساطة دارميته الصورية. وانبثق عمل نيومان الفني في الوقت ذاته ملحمة كتابية لهوليوود، وهناك في احيان كثيرة، كخطة في مثل هذه الافلام إذ يحدث السيد المسيح ظهورا، ويمنح المدرج الصوتي هالة مميزة لنغمات متآلفة اوركسترالية اساسية - دائما تذوب وتتلاشى، كما اعتقد، ولكن مع تصاميم صارخة بوضوح شديد تجاه مشاعرك، فصرامة نيومان الواضحة ليس فيها تصاميم صارخة اقل مستوى. ولكن ما يقال عن عمله يذهب حتى إلى ابعد من ذلك، في الواقع. فهناك لوحات تحتاج لان تكون اكثر من لوحات. ليست فقط فنا ذا عناصر اصيلة ولكن ايضا فن ذو تأثير عميق، تحتاج لان تختفي مثل مصنوعات يدوية من صبغة على قماش (والطريقة التي وضع بها الطلاء حذرة عموما ومشوشة). انها تتطلب ان تكون مخارج إلى ماوراء الذات. انها تتطلب ان تكون تجارب تسمو في وسط ومادة.

ينصح نيومان الزائرين لمعارضه الا يقفوا على مبعدة من اللوحات الكبيرة، بل ليقتربوا منها، والا ينظروا لها مثل النظر إلى صور مؤلفة بل يواجهونها كوجود والدخول فيها. وتحدث كثير من المشاهدين عن قوة لوحات نيومان: انها تبدو وكأنها تخاطب جسد المشاهد، تستحوذ عليك وتستغرقك، بينما ذاتك الواقفة تثبت بوساطة الاربطة العمودية وتحس أنك مغمور في حقول الالوان. انني اعترف، على رغم انني حاولت ان اغوص بنفسي، الا ان اللوحات لا تريد ان تشدني، او بالاحرى، بغرابة شديدة، وجدت جاذبية اكثر في مشاهدة المنتجات الصغيرة لاعمال نيومان اكثر من الاشياء الحقيقية الكبيرة. ولكن بالتأكيد لا اقول ان الناس الذين يدعون هذه التجربة (الاستغراق) يكذبون. انني متأكد انهم شهدوها وانني واثق انها ممتعة.

ولكن ما اعترض عليه هي القيمة التي يضعونها فيها. فقد اثارني مشجعو نيومان اذ انهم صوفيون (هاويين). اذ يبدو ولسبب واحد، ان ليست لهم حياة خارج صالة الفن. انهم غير مدركين تماما لكثير من الانواع المختلفة للتجارب المتسامية المتاحة عموما. انهم من الواضح لم يناجوا الطبيعة ابدا او يتأملوا فيها ولا أنهم تناولوا مخدرات. ولكن وجدوا بعض اللوحات التي تمنح شعورا غريبا اثناء الوقوف امامها ويعتقدون انهم مروا بتحول روحي مهم في العملية. ويوضح ناقد آخر لنيومان، هارون روسينبيرج، اللعبة اكثر بقوله «بالوقوف امام اعمال نيومان، فان المشاهد ربما يشهد استعلاء، او مؤثرات قريبة من السمو، التنويم الذاتي...». سمو واستعلاء ذاتي ما هذه السلسلة من الحالات! اعتقد ان اية احاسيس بالضعف الذاتي يمكن ان تشهد ذلك حتى تلك المكتسبة من مجموعة سيئة للادوات الخارقة للطبيعة. وبالتجول مرارا، فان لوحات بارنيت نيومان تشكل شرفة من المرايا المتحركة الطولية، مع هالة تتأرجح فوق كل منها. شخصيا، اعتقد، انه من المحتمل ان يكون لديك وقت افضل لتقف بنفسك، بمزاج متفتح بلطف، امام شجرة رائعة الحجم. سيكون لديك على الاقل شيء ممتع للغاية لمشاهدته.

(خدمة الاندبندنت- خاص بـ«الوسط»