كثيرا ما أثارت بعض الروايات في ذهني الفضول، إنها تلك التي تتحدث عن فترة ظهور المنقذ العالمي (الإمام المهدي من ولد فاطمة)، وكيف أنه حين خروجه يستخرج بعض مواريث الأنبياء من جبل في الشام، ولَكَمْ كنت متحيرا ومشتتا في تفسير تلكم الأخبار وتوجيهها... وكثيرا ما شغلني البَون الشاسع ما بين النص الديني في معالجاته التاريخية للحوادث وسردها وبين البحوث الأركيولوجية ووقائع الأرض فأيّهما على صواب... توقفتُ طويلا وألجمتُ نفسي عن السؤال حتى عثرتُ على ضوء خافت فتح لي مسارب الأمل... كتاب «أهل الكهف» فآثرت أن أنقل لكم قراءتي للكتاب كي نعرف أن في الأرض أثقالا ـ ربما ـ تحلّ ألغازا كثيرة استعصت على الأفهام وشغلتها طويلا.

الكتاب للباحثة هالة العوري، واسمه «أهل الكهف... قراءة في مخطوطات البحر الميت»، وهو من 12 فصلا بعد إهداء ومقدمة وفهرس ومراجع متخصصة. في الإهداء كانت الجملة المثيرة «إلى الأرض التي تحدث في النهاية أخبارها». أما المقدمة فتتحدث فيها الكاتبة عن المخاوف جراء الخلط بين المسيحية واليهودية وما ترتب عليه من مفاهيم مشوشة تفشت في المجتمع الغربي وغالبيتها على حساب تعاليم المسيح نفسه، وترى أن الخطورة ابتدأت مع كون تدوين الوثائق تم تحت الاحتلال الأجنبي الوثني وكشفها تحت سلطة الانتداب البريطاني والاحتلال اليهودي. إن مخطوطات البحر الميت عبارة عن مكتبة عامرة تحتوي على نصوص توراتية وكتابات لجماعة دينية خاصة تساعد على إيضاح ما شهدته فلسطين من حوادث لفّها الغموض والتعتيم قرونا طويلة، ومهما تكن قيمتها ومكانتها فيكفي أنها جزء من إرثنا الثقافي العربي. هدف الكتاب اطلاع القارئ العربي على موضوع مخطوطات البحر الميت وتتبع مسيرتها منذ الاكتشاف والحصار المضروب عليها وأخيرا إلقاء الضوء على ما فجرته محتوياتها من خلافات حادة ورؤى مغايرة.

شياطين التعامرة

تبحث في هذا الفصل قضية اكتشاف مخطوطات ولفائف قمران المختلف في زمنها (1946 - 1947) وعدد أبطالها، والمتفق على أنها منطقة نائية موحشة بمحاذاة البحر الميت على بضعة أميال من أريحا اسمها الحالي «قمران» أبطالها عرب التعامرة الخبراء في التنقيب وبيع ما يعثرون عليه. تناول الغربيون قصة الاكتشاف كثيرا محشوة بالإثارة بما يناسب طبيعة المكان الغريبة مضافا إلى إثارة زمن الكتابة وأزمة فلسطين وقتذاك.

اصطياد الكهوف

في هذا الفصل تسرد باقي قصة الاكتشاف وقيام رئيس دائرة الآثار الأردنية مضطرا هو ورفيقه مدير المدرسة الفرنسية للدراسات التوراتية بالقدس الأب ديفو إلى شراء ما حصل عليه التعامرة عبر وسيط، وقصة عرض اللفائف والنتف للبيع على المعاهد المتخصصة ومنها الفاتيكان على أن يكون الدفع مقدما والتسليم بعد الانتهاء من عملية الجمع.

الإجماع المقدس

تذكر أنه مع بداية الخمسينات تشكل الفريق الدولي (12 عضوا) لتجميع اللفائف إذ حددت هوية غالبيتها مع بداية 1959 غير أن النشر طال النزر اليسير وعلى فترات متباعدة ولحوالي أربعة عقود ما أضر بصدقية الفريق الذي كان أعضاؤه أقرب إلى رجال الدين من المحققين ليضطر بعدها إلى الإقرار بالتقصير متذرعا بما لم يُقبل معلنا بعض الحقائق منها أن 20 - 25 من المخطوطات هي مجموعة نسخ من أسفار العهد القديم وبها قراءات وشروح متعددة، ومجموعة من الكتابات عن موضوعات غير توراتية احتدم النقاش عليها والجماعة المسئولة عنها، والأب ديفو سارع وفريقه إلى تأكيد أن الجماعة هي طائفة الأسينيين Essenes التي أجمع المؤرخون على أنها نشأت في الفترة المكابية الحشمونية (150 - 30 ق.م) ظهرت هي والفريسيين ردا على انغماس الملوك المكابيين في الترف، ورأى الفريق ان الأسينيين انزووا بعد يأسهم من المؤسسة الدينية ليتم القضاء عليهم على يد الرومان 68م أي قبل تدمير الهيكل واحتلال أورشليم 70م، وان الوثائق تعطي الخلفية الدينية لعالم يسوع الناصري فقط.

الغموض المريب

تعرض لوضعية أشهر الجماعات اليهودية: «الصدوقيون» Sudducies، والفريسيون Pharises، والأسينيون وفرقة شعبية أخرى هي الغيارى على التوراة گealots. توالت الأسئلة عن وجه الشبه بين جماعة قمران وهل هم أصحاب الكنيسة الأولى؟ ومن هو المعلم البار الوارد ذكره في نصوصها؟ وهل هو يعقوب البار الوارد في العهد الجديد؟ فسارع الباحثون الملتزمون يهودا ومسيحيين إلى كبح أوجه الشراكة بين الأمرين. وقد تأكد الأمر قليلا مع وجود بعض الدلائل على إشارات مشتركة بين لفائف جماعة قمران وبعض الأناجيل أو مرويات المؤرخين.

انصياع مؤقت

تناقش كيف أن الفريق الدولي أزاح عن كاهله منذ البداية أمر اللفائف بردّها إلى ما قبل القرن الميلادي الأول لينزع أي احتمال لارتباطها بتعاليم العهد الجديد، ولكن برز التشكيك أكثر إذ الخلفية التاريخية لوثائق قمران لا تتفق مع مرحلة ما قبل المسيحية كما أن الإيماءات الداخلية ذات التوجه القتالي للجماعة لا تتفق وسلبية الأسينيين بل تتطابق مع توجهات الغيارى، ولكن الحملة القوية ضد المشككين حتمت جوا ثقيلا من الصمت في الستينات حتى أواسط الثمانينات ليعاد فتح الملف. وتختم بالسؤال عن الجهة المسئولة عن الفريق ومحاسبته إذ الفريق لا يعترف بأية سلطة سوى المدرسة التوراتية الكاثوليكية الواضحة الارتباط بالفاتيكان كما تدرس ذلك في الفصل اللاحق.

ورطة التحديث

تروي في هذا الفصل حقيقة ارتباط المدرسة التوراتية بالفاتيكان التي أنشأتها بعد فورة التطور العلمي والنقد الموجه إلى الكنيسة؛ فاضطرت إلى المجاراة بإنشاء مركز لإثبات صحة الأسس التاريخية للدين المسيحي بالأساليب المتبعة لدى الخصوم، ولكن عادت أدراجها لتعلن تمسكها بحرفية الكتاب بعد أن صار التحديث وبالا عليها

البحث مازال جاريا

تتعرض لأزمة مرويات العهد القديم وعدم اتفاقها مع النتائج الأركيولوجية، وكيف أن العشرينات شهدت تيارا محافظا وعودة إلى العقلية اللاهوتية الضيقة بالتصديق التام بمرويات العهد القديم وتحوير كل المعطيات لتصب في صالحه بل واعتبارها مصدرا أوليا لدراسة تاريخ «إسرائيل» القديم، وهي ولم تسلم من التنقيح لخمسة قرون أو أكثر حتى أخذت شكلها النهائي في القرن (6 ق.م). ثم تسترسل في تاريخ اليهود وعلاقة جماعة قمران بهم لترى أنهم خرجوا من أورشليم لمواجهة الفساد الذي عليه الجميع حكاما وكهنة لائذين بالوصايا العشر وشريعة موسى برؤى مختلفة للنصوص الدينية دونما عناية كبيرة بالهيكل متوقعين ظهور مخلص أو اثنين. ومع نهاية الألفية الأولى قبل الميلاد كان الفريسيون في الهيكل وجماعة قمران المناهضة في قمران ليبدأ صراع مجهول.

أسينيون أم نصارى؟

تذكر إشارات ودلالات على أرجحية نسبة الجماعة لواحد من الاثنين، وتحت عنوان «قمران تتحدث عن نفسها» تتطرق إلى «قانون الجماعة» وشروط الانضمام إليها وفق تراتبية دينية ومبدأ المشاركة. ثم تذكر ما تطفح به اللفائف من نقد للكاهن الأكبر ورئاسته المتزلفة ما يفضي إلى التباين في أسلوب نواحي العبادة بين كهنوت الهيكل في أورشليم وجماعة قمران بقيادة المعلم البار ثم تعرض لموضوعات شتى، وفي كل تلك الشئون تُرجع القارئ إلى مقاطع من الأناجيل لتبين التقارب.

وفي جزء من الفصل تتعرض لإشكالية مصطلح «الأسينيين»، وتعقد مقارنات بين الروايات عنهم تخلص إلى أن تلك الراويات غير متجانسة أو عاكسة لواقع الجماعة التي هي أقرب إلى الكنيسة الأولى.

قراءة ما بين السطور

تؤكد عدم إمكان دراسة فكرة الكنيسة الأولى من الأناجيل سوى ما ورد في «أعمال الرسل» التي انفردت برواية مميزة عن السنوات الأولى للمسيحية الأولى ذات أهمية كبيرة غير متوافرة في مصدر آخر على رغم ما يبدو أنه اعترى الرواية من تغيير وشطب وتعديل. يظهر بولس في الأعمال عدوا للجماعة الأولى من أتباع يسوع المباشرين بقيادة «المعلم البار» ليتحول فجأة إلى «بولس الرسول»، وقد حدث تصدع بينه وبين الجماعة لمواقفه وتأزمت علاقته بيعقوب. وترى العوري وفقا لإيزنمان المؤرخ أن الخلاف لم يكن بسيطا بل جوهريا.

استقطاب وثورة

تذكر أن المصادر التاريخية تناول كثير منها منزلة يعقوب الرفيعة ودوره القائد في الجماعة الأم «الكنيسة الأولى» في أورشليم، غير أنها لم تحظَ باعتراف الكنيسة الرسمية! على رغم أن العهد الجديد لم يخلُ من ذكر يعقوب كأحد إخوة يسوع في «أعمال الرسل» التي تبدو فيها الحوادث خارج سياقاتها ومبتورة أحيانا، وتُرجع السبب لمنهج يعقوب البار المقاوم لكبار كهنة جبل الهيكل ما شكل مصدر إزعاج لروما وحلفائها، وتحاول الإلمام بالخيوط المتقطعة لمأساة يعقوب البار والاعتداء عليه من كتابات المؤرخين الذين استقوها من روايات مفقودة عن تلك الحوادث التي أغفلتها الأعمال، ليُرْبَط بين قتله وبين اشتعال الثورة فأمْر فسباسيان الجيش الروماني العام 66م باقتحام يهودا وإخماد الثورة الأمر الذي أدى إلى سقوط أورشليم وتدمير الهيكل 68م.

قمران تتحدث

بعض المخطوطات تتناول بالشرح أسفار العهد القديم وأعمالا أخرى بخلاف ما اعتاده التفسير التلمودي والمسيحي، وبعضها خاص بالجماعة. ثم تسترسل في بيان تلك المكتشفات.

للحديث بقية

تخلص إلى أن وثائق قمران بانتقاداتها الواضحة لانتهاك الناموس من المؤسسة الدينية في الهيكل ودعوتها لرفض الأجنبي والإلحاد هو ما ألب الرومان وكهنة أورشليم على الجماعة، تلك الجماعة يرجح أنها هي جماعة الكنيسة الأولى، وهو ما يفسر اضطهاد الرومان للمسيحيين الأوائل والذي لم ينتهِ إلا حينما أخذت المسيحية طابعا هلينينا بفضل رؤى بولس الرسول «العدو» بتعبير جماعة قمران، والذي استخدم عبارات المعلم/ يعقوب البار نفسها فيما يخدم أفكاره المنحرفة عن مبادئ المسيح الحقيقية، بمباركة من الرومان ليتسيد دينه الجديد.

-اسم الكتاب: أهل الكهف... قراءة في مخطوطات البحر الميت - اسم المؤلف: هالة العوري - الناشر: رياض الريس للكتب والنشر - الطبعة: الأولى نيسان/ أبريل 2000م - الصفحات: 40