العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ

الضربات الوقائية لبوتفليقة وحدودها

الجزائر والصراع على الرئاسة

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

اذا كان الزلزال الذي ضرب الجزائر في الأيام الأخيرة دفع بالقوى صاحبة القرار في الجزائر لتجميد صراعاتها مؤقتا وخصوصا بعد إقالة رئيس الوزراء وأمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، علي بن فليس، فإن علامات اختبار القوة بين الأطراف المعنية، مرسخة للعودة بشكل أقوى وأقسى. فمن المتوقع اذن أن تستخدم الجهات المتصارعة حتى الآن «بالواسطة»، الكثير من الأوراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتداولة في الساحة لتحسين مواقعها وشروطها في اللعبة، تمهيدا لاضعاف خصومها علما بأن البلاد قد دخلت منذ الآن في أجواء الانتخابات الرئاسية، الذي يبدو، من خلال متابعة دقيقة لمجرياتها أن جميع الضربات يمكن أن تكون مسموحة، كذلك تغيير التحالفات، من ضمنها مع التيار الاسلامي المعتدل، حتى ولو لم يأخذ هذا الأخير شكلا واضحا حتى الساعة.

لم تكن عملية استبعاد الوزير الأول علي بن فليس، من قبل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة مفاجأة بالنسبة للدوائر الغربية المهتمة بالشأن الجزائري لاعتبارات اقتصادية وحفر استراتيجية في هذه المرحلة بالذات. فتراكم الأزمة بين ساكن قصر المرادية ومدير حملته الرئاسية السابعة كان قد وصلت الى أوجها مع تسجيل هذا الأخير نقاطا مميزة في مرمى الأول خلال انعقاد المؤتمر الثامن لحزب جبهة التحرير الوطني الذي يسيطر حاليا على غالبية المقاعد في البرلمان. ولم تنفع المحاولات التي قام بها حلفاء الرئيس بوتفليقة داخل المؤسسة الحزبية من حوادث تعديلات جوهرية على التوجهات المطروحة، خصوصا لناحية استقلالية قرار الحزب عن الرئاسة، ورفض اعلان تبني ترشيح هذا الأخير لولاية ثانية. مدركا أن هذا الانتصار الحزبي السياسي لخصمه المرتقب والمدعوم من جهات فاعلة علنا كالاتحاد الوطني للعمال الجزائريين، وسرا من قبل بعض رموز السلطة الفعلية (أي مؤسسات الجيش) من شأنه أن يساعد بوتفليقة على الدخول بقوة في السباق الرئاسي، لذلك عمد رئيس الجمهورية إلى اتخاذ قراره بشن هجوم وقائي قبل فوات الأوان. وبناء عليه لم يجد أمامه سوى وسيلة وحيدة تلخصت بقلب الطاولة، بهدف خلط الأوراق والبدء بلعبة «بوكر» الجديدة، ربما ليست محسوبة النتائج، لكنها تكفل إعادة الأمور لنقطة البداية.

مع ذلك يرى المراقبون أن أسلوب بوتفليقة هذا لم ينجح هذه المرة، كما كان الحال في المرات السابقة. فهذا الأخير الذي اعتاد أن يمسك بزمام المبادرة، وإجبار رؤساء الحكومات والوزراء الذين اختارهم لتقديم استقلالاتهم، وجد نفسه اليوم مرغما «على تغيير تكتيكاته، خصوصا بعد أن أصرّ بن فليس على عدم الخضوع، خلافا لسلفه أحمد بنبيتور. ذلك لأن الوزير الأول المقال يعرف «البئر وغطائها»، وتفكير من كان يوما مديرا لمكتبه قبل أن يصبح مسئولا لسلطته التنفيذية.

تقلص الخيارات

إن لجوء بوتفليقة لتعيين أحمد أو يحيى، رئيس حزب ثانوي، معروف بتقلبه، والمقرب من فريق من الجنرالات، يؤكد أن رئيس الجمهورية في موقف سياسي صعب لا يحسد عليه كونه قد جاء «بالدب الى كرمه». لكن يبدو أن ضيق هوامش المناورة لديه دفعته الى هذا الخيار. على أي حال، فإن اقالة بن فليس ليست الا بداية لصراع الأجهزة داخل السلطة بحيث يتوقع أن تحدث هزات كبيرة من الأكثر حتى حلول موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في شهر مارس/آذار من العام 2004، إذا لم يحدث طارئ ما في هذا البلد الذي تعتبر فيه المفاجآت السياسية جزءا من تركيبته تماما «كثقافة المؤامرة» التي تعشعش في عقول المتعاطين بالشأن العام، فذهاب بوتفليقة الى حد انتهاج طريق «الانقلاب المؤسساتي» لاجبار بن فليس على ترك الحكومة بعد أن فشل في محاولة «انقلابه الحزبي»، دليل على أن خياراته باتت محدودة جدا.

وتفيد المعلومات الواردة من مصادر مقربة من رئاسة الجمهورية، أن سعيد القصر عرض على رئيس «المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي» محمد صالح المنصب الذي انتهى إلى آذيحي لكن الأول اعتذر بلباقة عن تولي هذه المسئولية. فمنشوري كان يمكن أن يشكل خشبة الخلاص لبوتفليقة وورقة رابحة في حال قبوله، كونه يحظى باحترام كبير لدى غالبية الجزائريين، كما يتمتع بصدقية لدى المؤسسات المالية العالمية. وكان هذا الأخير قد نصح رئيس الدولة مرارا بالتركيز على الشأن الاجتماعي المتدهور على حساب المناورات السياسية، لأن اهمال الجانب الأول يمكن أن ينتقل بالحال «المتأزمة جدا» الى وضعية الانفجار، وخصوصا اذا ما استمرت المماحكات في قمة السلطة. كما نصحه بعدم تضييع وقته وجهده بالعمل على تفجير حزب جبهة التحرير من الداخل، لأن هذا الأمر ممنوع في هذه المرحلة بالذات. ما اعتبرته الأوساط المراقبة بمثابة موقف داعم، ولو غير عليها من قبل «المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي» الذي تعتبر دراساته وتشخيصاته مرجعا لبن فليس.

لقد اتخد التأزم منحى تصعيديا عندما استخدم بوتفليقة سلطاته الدستورية وبعث منذ أربعة أشهر برسالتين وصفتهما الدوائر المطلعة بالاستفزازية للذين يعتبرهم بمثابة العقبات الرئيسية في وجه عودته لقصر المرادية. ويتعلق الأمر برئيس جهاز الأمن العسكري محمد مديان (الملقب بتوفيق) ورئيس جهاز المخابرات العسكرية اسماعيل العماري ففي حين تلقى الثاني الرسالة بهدوء أعصاب كونه يستعد منذ فترة لطلب التقاعد، كانت ردة فعل الأول عنيفة بحيث ردد امام المحيطين به ومساعديه: «إذا كان رجلا، ورئيسا فعليا، ليأت إلى هنا ويزيلني من موقعي»، منذ ذلك التاريخ، والحرب قد بدأت بين رئيس الجمهورية من جهة والحليفين العسكريين. من أولى تداعياتها قيام الفريق الثاني بتوزيع ملفات على بعض الصحف التي تسير لعلاقة مالية ما بين رجل الأعمال الاماراتي علي الشرفا وشقيق الرئيس، المستشار القانوني لمجموعة «خليفة» التي تمر حاليا بظروف يمكن ان تؤدي إلى اشهار افلاسها. وتمكنت شبهات الرجلين من اقناع الصحافة الباريسية خلال زيارة بن فليس لفرنسا في يناير/ كانون الثاني الماضي ولقائه مع الرئيس جاك شيراك، بأن رئيس الحكومة الجزائرية، هو «الخليفة المحتمل» للرئاسة ما أثار بوتفليقة ودفعه لإعداد انقلابه المؤسساتي، خصوصا بعد رفض بن فليس جميع العروض التي قدمها له للدخول مجددا في اصطفاف الصفوف. هل كانت ضربة بوتفليقة - الحيوان السياسي - بمثابة خبطة معلم؟ من السابق لأوانه الجزم بهذه المسألة، قبل أن نرى حجم الرد الذي سيقوم به خصومه وإن تأخروا بعض الشيء بفعل الكارثة (الزلزال).

ومن ضربات بوتفليقة السياسية المحملة، تشجيعه لعشرة شخصيات تاريخية ومستجدة تدعو للوفاق الوطني. لقد قامت هذه الأجهزة من بينها، الرئيس الأسبق أحمد بن بله، ووزير الخارجية الأسبق أحمد الطالب الابراهيمي، والشيخ محفوظ نحناح، بإصدار بيان تدعو فيه السلطة ورئيس الجمهورية للإفراج في يوليو/ تموز المقبل عن زعماء جبهة الانقاذ، الشيخ علي بنجاح (المسجون) وعباس مدني (قيد الاقامة الجبرية)، ويشكل موازين عمل لوضع خطة تحرك خارجية لتعزيز مواقعه الداخلية. في هذا الاطار قام بزيارة مفاجئة لطرابلس الغرب إذ التقى العقيد معمر القذافي، وبدأ يستعد للقدوم لباريس للقاء جاك شيراك عشية قمة الدول الثماني الصناعية الكبرى، لكن الهزة الارضية فوتت عليه هذه الفرصة، كما أوفد بسرية تامة، وزير الطاقة والمناهج، شكيب خليل، لواشنطن حاملا رسالة يطمئن من خلالها الاميركيين بأن مشروع القانون المتعلق بالهيدروكربورات - فتح القطاع أمام الاستثمار الخارجي - الذي جمد نتيجة تواطؤ بن فليس مع المركزية النقابية، سيعاد طرحه في دورة الخريف على البرلمان ويمر بسهولة مع حكومة أويحي، أمام جملة هذه الهجمات، لايبدو أن خصوم بوتفليقة متسرعون للرد العشوائي بل يحضرون ضربة كبيرة في الوقت المناسب حسب قول مراجع مقربة من هذه المجموعات.

رص الصفوف

لايبدو أن معركة بوتفليقة محسومة سلفا على رغم الهجمات السياسية المضادة التي قادها أخيرا، والتي استهدفت أحيانا رموزا خلفية للسلطة الفعلية، أي الجيش. على أي حال، فالرد الأول الذي يحسب له حساب جاء من رئيس الأركان، محمد لعماري، الذي لم يتدخل في «الانقلاب المؤسساتي» مفضلا التفرج حتى تتضح الأمور، ويلتقط الثمرة على الأرض. لقد خرج هذا الجنرال الكبير عن صمته عبر بيان صادر عن الجيش الوطني الشعبي الذي يقوده.

ينفي فيه قطعا تحرير المجموعة الثانية من الرهائن السياح الأوروبيين، كما سبق أن أعلن وزير الداخلية، نورالدين يزيد زرهوني، أحد رجالات بوتفليقة. ولقد تزامن هذا البيان مع الإعلان بوقت واحد تقريبا من كل من الرئيسين السابقين، الشاذلي بن جديد والأمين زروال - على رغم عداوتهما - عن دعمهما لعلي بن فليس، بعد ساعات من إقالته.

كذلك، تخلى عدد من قادة الولايات من عسكريين عن تكتمهم، متدخلين في السياسة عبر اتهام رئيس الجمهورية باستخدام مسألة الإفراج عن قادة جبهة الإنقاذ، الإسلامية، وسيلة في سباقه للرئاسة. ولقد تعمدت جملة هذه الأطراف، على رغم تناقضاتها، للتأكيد أن ملف هؤلاء مقفل ولا داعي لفتحه مجددا. ما نشرته الأوساط المراقبة بمثابة تهديد من المؤسسة العسكرية التي لا يمكن أن تقبل تحت أي ظرف بعودة هؤلاء إلى الساحة.

مع ذلك، ترى هذه الأوساط أن بوتفليقة تمكن من دفع رئيس الأركان، الجنرال محمد لعماري إلى الإفصاح عن مكنوناته واتخاذ موقف واضح بعدما تعمد البقاء مطولا في الموقع الحيادي. فخلال مؤتمر صحافي عقده في أكاديمية «شرشال»، نقلتها وسائل الإعلام بما فيها التلفزيون الجزائري، أكد الرجل القوي في السلطة بوضوح هذه المرة أن «مبادرة العشرة جاءت في وقت غير مناسب»، مضيفا أنه «لا الظرف ولا الأسباب، بحسب اعتقادنا، ملائمة لهذا النوع من الانتهازية السياسية».

لقد اكتشف بوتفليقة إذن، وهو الذي اعتقد أنه قام بضربة وقائية، وخلط الأوراق، وعمل على تسريع الاستحقاقات، أن الجيش يقف صفا واحدا كالعادة، ولم يتغير شيء في هذا المجال. وبالتالي فإن العقبات لن ترفع بسهولة، وبأنه بات عليه أن يغير مجددا أساليبه ويتجنب قدر الإمكان الرهان على الخارج، كما فعل منذ بداية حكمه. لأن هذه الورقة الأخيرة يمكن أن تشكل «مقتله السياسي»، لأن «السلطة الفعلية» وأصحابها خبراء في اللعب في الوقت الضائع، وتحريك الشارع. لقد أثبتوا ذلك منذ نحو من شهر عندما نفذ أكثر من أربعة ملايين عامل وموظف إضرابا شل البلاد لمدة أربعة أيام. رسالة كان على بوتفليقة فهم أبعادها. لكنه آثر على ما يبدو لعبة «البوكر» ولو لم تكن بشروطه

العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً