في نسخته الجديدة، يبدو قانون الصحافة والطباعة والنشر أقل في مواده من النسخة الاولى وأعني المرسوم رقم 47. وكي لا يبدو الامر امعانا في المغالاة، نشير الى بعض ملامح التغيير في النسخة الجديدة التي يفترض انها صيغت بعد اخذ رأي الصحافيين سواء عبر اللجنة التي ضمت الزملاء رؤساء تحرير اليوميات الثلاث او اللجنة الموسعة التي ضمت بعض الزملاء من اعضاء اللجنة الفرعية لتفعيل مبادئ الميثاق.
يسجل القانون في نسخته الجديدة، تطورا ملموسا في الفصل السابع المتعلق بجرائم النشر. ولعل ما جرى للزملاء الصحافيين بدءا من الزميل منصور الجمري وحسين خلف ووصولا الى الزميل انور عبدالرحمن يجعلنا نلمس هذا الفارق في المادة 56 مثلا التي تنص على «عدم جواز حبس الصحافي احتياطيا في الجرائم التي تقع بواسطة الصحف الا في الجريمة المنصوص عليها في المادة 214 من قانون العقوبات». ان المبدأ هنا هو ما نحتاجه فعلا مثلما اظهرت وقائع استدعاءات الجمري وخلف وعبدالرحمن، فهؤلاء اضطروا لدفع الكفالة لان الامر بدا وكأنه ابعد من تحقيق وان التهمة ثابتة وأركان القضية التي استدعوا من اجلها مكتملة. ان المادة 214 من قانون العقوبات التي تبيح الحبس الاحتياطي تتعلق بإهانة الذات الملكية واهانة علم البلاد، وبقليل من حسن التقدير، يمكننا ادراك ان ما عدا هذه الجريمة التي لا يمكن ان تحدث في صحافتنا، فإن باقي جميع جرائم النشر لا توجب حبس الصحافي احتياطيا وهو ما يمكن ان يعد مكسبا جديدا للصحافة في البحرين.
في ملمح آخر ايجابي، تعامل القانون في نسخته الجديدة مع جرائم النشر في اطارها الصحيح كجنح وليس كجنايات وهذا واضح من الاشارة الى العقوبة - التي وان كنا لا نتمنى وجودها - بكلمة الحبس. وعلى رغم ان ثمة تعارضا شكليا سيلي ذلك في المادة (57) عندما نصت المادة على «اختصاص المحكمة الكبرى الجنائية بنظر الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون»، لكن كخيار واقعي، فإن نظر القضية من قبل 3 قضاة يبدو خيارا افضل من نظر القضية من قبل قاض واحد.
لكن هذا ليس مدعاة للابتهاج بالقانون عموما، فالتطور بطيء وجزئي ولعل هذا القانون ينطوي بالمقابل على تحول خطير في التعامل مع الصحافة والطباعة والنشر... ان القانون يعيد تعريف هذه النشاطات من جديد ويتعامل معها بمفاهيم جديدة تدخلها في فضاء الرقابة.
«الرقابة» هي كلمة السر، هي الكلمة المفتاح «كُلم» التي تتسربل في ثنايا قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر في نسخته الجديدة. هذا السعي المحموم للرقابة يبدو هو الدافع الخفي لمجتمع مازال يتنفس اولى نسائم وأوكسجين الحرية. ويبدو هذا الميل لكبح اندفاع مفترض نحو الحرية هاجسا ملازما لا للحكومة فحسب بل لكل النخب في هذا البلد، سياسية، دينية، اجتماعية وثقافية.
ثمة ميل يعبر عن نفسه يوما بعد يوم لكبح اندفاع مفترض نحو الحرية وهو الميل الذي تعبر عنه هذه الصيحات التي نسمعها من المسئولين ومن نواب ومشرعين ومن رموز ومثقفين: «الحرية ليست فوضى».
حقا ان الحرية ليست فوضى، لكن تقديم «الحرية» كقابل «للفوضى» في معظم الاحوال لا يعبر عن ذهنية لاتزال تتعامل مع الحرية بوجل وحذر الى حد الرغبة في كبحها، بل انه يخلط بين الحاجة إلى القانون كضابط ومنظم لهذه الحرية وبين الحاجة إلى القانون لكبح هذه الحرية والهبوط بسقفها الى ادنى حد ممكن.
هذه هي محنتنا مع الصياغات الجميلة للديباجات. فالديباجات تؤكد على المبادئ العظيمة واركان الحرية والديمقراطية وتضعها في صياغات لطالما كانت بالنسبة إلينا مثل الاحلام. لكنها تبدأ بالانتقاص منها وافراغها من اي معنى في النصوص اللاحقة، وبالضبط في النصوص المنظمة لممارسة الحرية. ان فحوى القانون تبدو ملتبسة دوما لنا ما بين الديباجات العظيمة وبين النصوص الاجرائية، فالاخيرة على تضاد مع الاولى في المدلول او النتيجة العملية.
هذه بالضبط هي الروح التي ينطوي عليها قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر، فهو مسكون بهاجس الرقابة المسبقة الى اقصى حد. وهو في سعيه هذا، خلط بين دور الوزارة كمنظم لقطاع الصحافة والطباعة والنشر وبين ان تكون جهة رقابة حقيقية على النوايا (النصوص المتعلقة بجرائم النشر) ومسئولة عمّا يتعين على الناس ان تقرأه وما لا تقرأه (النصوص المتعلقة بتنظيم المطابع) وساعية لتقنين الرقابة الذاتية وتعميمها ايضا وتحويل رؤساء التحرير الى رقباء (المادة 60).
تنفع المقارنات لتنشيط الذاكرة والجدل. ليست وزارة الاعلام وحدها هي التي يعهد لها القانون بهذا الخلط بين دورها كمنظم ودورها كرقيب ذي سلطات تتيحها لها نصوص غامضة. ان جدل البطالة كله ينطوي على مثل هذا الخلط، ودور وزارة العمل في حل هذه المشكلة ومسئوليتها ملتبس لدى الكثيرين. فعلى مدى السنوات الماضية وحتى الآن مازالت وزارة العمل تراوح في دورها حيال هذه المشكلة ما بين دور «وكالة التوظيف» وما بين دور «الضغط» على القطاع الخاص. والمشكلة في هذا كله هي انه ليست هناك مقاربة او رؤية على المدى البعيد او برنامج لحل المشكلة على النطاق الوطني. وهذه المراوحة بين هذه الادوار كلها، ستقودنا بالنهاية الى دور مازال غائبا للقطاع الخاص نفسه. ومع التسليم بأن اقتصادنا حر وبأن دور الدولة هنا هو ايجاد فرص للنمو الاقتصادي، فإن التساؤل عن سر هذه المراوحة لا يعني سوى ان هناك خللا. هذه نتيجة يمكن ان يقودنا اليها السؤال عن دوافع مبادرة جلالة الملك بالتبرع بمبلغ 25 مليون دينار للتعامل مع هذه المشكلة. هذا معناه ان الوزارة ليس لديها تصور، او ان لديها في احسن الاحوال تصور ما لحل المشكلة لكنها تفتقد للوسائل او الارادة او القرار الواضح او آلية التنفيذ. القطاع الخاص ليس له دور، وبالنتيجة: ليست هناك خطة لمعالجة المشكلة، او ان الحلول والتصورات والضغط الشعبي والسياسي فيها يجعل التردد هو السمة الابرز للتعامل مع هذه المشكلة.
المنظم والرقيب
لماذا يسود مثل هذا الالتباس والخلط؟ يبدو الانتقال من وضع كانت فيه الدولة مسئولة عن كل شيء ومن دون مشاركة شعبية الى وضع يتعين فيه الفصل بين السلطات ويعتمد على المشاركة الشعبية عبر المؤسسات الدستورية مازال يثير فينا كل دوافع التردد. ثمة خوف كامن من المستقبل وبالضبط من الآفاق التي يمكن ان تفتحها الحرية. وهذا بالضبط ما ينطوي عليه قانون الصحافة والطباعة والنشر. لقد وضع هذا القانون وأعين واضعيه على المستقبل، لكن ليس بما يلبي طموحات الصحافيين ولا يخدم نمو الصحافة في البلد ولا تطورها الكمي ولا النوعي.
لقد قلت هذا من قبل وهآنذا اعيد التأكيد وأضيف ان هذا القانون ليس هو القانون الذي يمكن ان يتيح ازدهارا ثقافيا وادبيا وحركة نشر لانه بشكل او بآخر وعبر اشتراطاته فيما يخص تنظيم المطابع يكرس «الرقابة» ويجعلها الفضاء الوحيد الذي يحكم «الصحافة» و«الطباعة» و«النشر»، لا لشيء سوى انه ينطلق من هذا الخلط بين دور «المنظم» ودور «الرقيب» ذي السلطات التي تتيحها نصوص غامضة.
ضمن هذه الروح وبها، اعطى القانون للوزارة «صلاحيات دون ضوابط» خالطا بين دورها كمنظم ودورها كرقيب بل وأفسح مجالا للهوى في القرار الاداري.
لنر كيف عالج القانون مثلا عملية اصدار الصحف. ففي المادة (23) نص على انه «لا يجوز اصدار الصحف الا بقرار من الوزير وبعد موافقة مجلس الوزراء». وفي المادة (24) نص على انه «لكل بحريني ولكل شركة يمتلكها بحرينيون الحق في اصدار صحيفة». وفي المواد التالية (26) و(27) و(28) حدد الاشتراطات المطلوبة في اي طلب لاصدار صحيفة.
لكنه عاد في المادة (29) واعطى الوزير مهلة 45 يوما كحد اقصى للبت في طلب مستوف للشروط. مضى اكثر ليعطي الوزير ايضا حق رفض الطلب وهذا يجعل التساؤل مطروحا عن الاسباب التي تدفع الى ايراد شروط لاصدار الصحف ومن ثم اعطاء الوزير ايضا حق الرفض...؟ هل هناك شروط اخرى غير الواردة في القانون للموافقة او رفض طلب اصدار صحيفة...؟ هذا ابسط تساؤل يمكن ان نستنتجه من هذه السلطة التي اعطيت للوزارة في رفض طلب مستوف للشروط. ولا يمكن المحاجة هنا بأي أمر آخر، فالقانون نفسه هو الذي يعطينا هذا الاستنتاج طالما انه يضع الشروط ثم يعطي الوزارة حق الرفض او القبول. على اي اساس يرفض طلب مستوف للشروط...؟
في صورة اخرى للخلط بين الادوار، تنص المادة (30) من القانون على انه «يجب على المرخص له باصدار صحيفة ان يودع في خزينة الوزارة خلال ثلاثة اشهر من تاريخ الموافقة على الترخيص ضمانا نقديا او مصرفيا لا يقل عن 5 في المئة من رأس المال المدفوع وذلك تأمينا لما قد يحكم به على اي من المرخص له او رئيس التحرير او المحرر المسئول او الصحافي من الغرامات والمصاريف تطبيقا لاحكام هذا القانون». السؤال: كيف توقع الغرامة على الصحيفة او الصحافي؟. أليس عن طريق القضاء؟ هذا ما ينص عليه هذا القانون نفسه (لا يجوز مصادرة الصحف او تعطيلها الا بحكم من القضاء - المادة 5) وفي المادة (54) التي تنص على ان «النيابة العامة وحدها التي تختص برفع الدعوى الجنائية عن الجرائم التي تقع بواسطة الصحف ومباشرتها...». اذا لماذا يعطي النص وزارة الاعلام الحق في اقتطاع غرامة ستحكم بها المحاكم في المستقبل؟. الغرامات تدفع في المحكمة وليس في اي وزارة حكومية. فالوزارة بموجب هذا النص تتلبس دور القضاء ايضا.
وفي المادة (63)، اعطيت الوزارة ايضا سلطة من دون ضوابط عندما نصت المادة على انه «لا يجوز لمراسلي الصحف او المجلات او وكالات الانباء والاذاعات الاجنبية ممارسة عملهم في مملكة البحرين قبل الحصول على ترخيص من الوزارة ويكون الترخيص لمدة سنة قابلة للتجديد. ويعاقب على مخالفة هذا الحظر بغرامة لا تجاوز الف دينار».
لقد اعطى النص للوزارة سلطة ودور المنظم، لكنه لم يضع ضوابط لهذه السلطة مما يفسح مجالا للتعسف في استخدام هذه السلطة وتأثرها بالهوى. فالقانون لم يوضح في حالة ما اذا كان طالب الترخيص مواطنا بحرينيا اسبابا لرفض او منح الترخيص للمراسل ولم يضع اي ضابط في هذا الصدد. ولكي يتبين المرء خطورة ما ينطوي عليه غياب الضوابط، نذكّر بأن النص يتعلق بالعمل او بالاصح «حق المواطن» الثابت دستوريا في العمل.
ربما تسعفنا المقارنة هنا، بعيدا عن الصحافة، اذا افترضنا ان مواطنا ما حصل على عمل من شركة خارج المملكة واختارته هذه الشركة ليعمل لحسابها من البحرين ضمن القوانين والاصول المرعية، بنكا، شركة علاقات عامة، شركة استثمارية، شركة ادوية ومستحضرات تجميل او حتى شركة لبيع وترويج زيت حوت العنبر، فهل يحق لوزارة العمل والشئون الاجتماعية ان تعترض مثلا...؟ لا تعينوا فلانا بل اليكم بفلان؟ هذه محاربة في الرزق.
الضوابط المطلوبة في سلطة كهذه (مع تأكيد احترامنا للتنظيم في الترخيص بالعمل) هو ما استقرت عليه الاعراف والقوانين في اكثر الاشكال تحضرا: «ان يكون المراسل المعني اذا كان بحرينيا مقيدا في جدول العاملين والممارسين للمهنة في نقابة الصحافيين». ان في هذا حماية لاهل المهنة ايضا من دخول ومزاحمة غير المحترفين وغير الممارسين الحقيقيين.
هذا هو الضابط الوحيد المقبول عقلا ومنطقا، لكن ان تعطى الوزارة سلطة الرفض او القبول من دون ضوابط فإن هذا من شأنه ان يفسح المجال للاستبداد والتعسف المشوب باغتصاب السلطة وتحكم المزاج الشخصي للموظف العمومي. فاذا كان الموظف العمومي المعني لا يحب هذا الشخص او ذاك، فإن المجال متاح لرفض طلبه دونما سبب لان القانون نفسه والمادة (63) لا تجبر الوزارة على ابداء اي تسبيب لقرارها ولا تتيح اي امكانية للمتضرر من قرار الرفض مثلا للرجوع على الموظف العمومي لدى القضاء.
أي ازدهار للطباعة والنشر؟
يتبدى هاجس «الرقابة» في صورة اخرى في النصوص الواردة في الباب الثالث من القانون (الطباعة والنشر).
ان اكثر ما سيدفعنا للحكم على النصوص هنا هو التساؤل عن تعريفنا او مفهومنا للطباعة نفسها. فهل هي نشاط تجاري ام نشاط ثقافي ام نشاط سياسي. ويمكن للمرء ان يتعرف على مثل هذه المفاهيم او يتلمسها من خلال الطريقة التي يتعامل بها القانون مع هذا النشاط. هنا سنصاب بصدمة نوعا ما عندما نهرع الى الاوراق وننفض الغبار عن القوانين السابقة. ان «المرسوم بقانون رقم (14) لسنة 1979 في شأن المطبوعات والنشر» والذي كان يسمى تندرا لدى الصحافيين «قانون الممنوعات» يتعامل مع الطباعة كنشاط تجاري وهو لهذا اشترط الحصول على الترخيص من وزارة التجارة كسجل تجاري ولم يشترط الحصول على ترخيص من وزارة الاعلام. ففي المادة (3) من ذلك القانون، ليس مطلوبا من صاحب المطبعة قبل فتحه للمطبعة ومزاولة اي عمل سوى ان يقدم اخطارا كتابيا الى ادارة المطبوعات (وزارة الاعلام) يتضمن اسمه ولقبه وجنسيته ومحل اقامته (الفقرة أ) ومقر المطبعة واسمها ورقم القيد في السجل التجاري ونوع الآلات المستخدمة فيها (الفقرة ب). وفي المواد اللاحقة (7) و(9) و(13) و(14) يتحدث القانون عن تنظيم طباعة وتداول المطبوعات، لكنه لم يجبر الطابع على عرض كل مطبوع ينوي طباعته على الوزارة مسبقا بل يكتفي بالاخطار وايداع نسختين من المطبوع، اي بعد طباعته.
لكن القانون الجديد نص في المادة (65) منه على انه «يجب على كل من يرغب في انشاء مطبعة ان يحصل على ترخيص بذلك من الوزارة قبل مزاولة اي عمل فيها». وهو هنا حوّل الطباعة الى نشاط غير تجاري واضاف اليها ايضا دور النشر والمكتبات او التوزيع او مؤسسات قياس الرأي العام وحتى مكاتب الترجمة والمكاتب الصحافية او مكاتب الدعاية والاعلان او وكالة انباء.
عدا، المكاتب الصحافية او وكالات الانباء، فإن دور النشر والمكتبات والتوزيع ومؤسسات قياس الرأي العام ومكاتب الترجمة والدعاية والاعلان حسب القانون القديم نشاطات تجارية اشترط لانشائها الحصول على سجل تجاري.
هذا الانقلاب في المفاهيم ينطوي على خلط كبير ايضا في تعريفنا ومفاهيمنا للنشاطات الثقافية. وطالما ان القانون لا يتعامل مع هذه النشاطات كنشاطات تتطلب الخضوع ايضا لشروط السوق والربح والخسارة، فانه يدفعنا حتما إلى القلق.
ان ادراك البعد التجاري في نشاطات النشر والثقافة مؤشر قوي على مجتمع يتعامل مع الثقافة والنشر دونما وجل او خوف بل وبثقة عالية في النفس. لكن غياب البعد التجاري ووضع هذه النشاطات في خانة النشاطات التي يتعين ان تشرف عليها وزارة اعلام لا يعني سوى ان هذه النشاطات باتت ينظر اليها كنشاطات يتعين خضوعها لقوانين غير قوانين السوق او في احسن تقدير بعيدا عن قوانين السوق. ليست هذه دعوة لإرخاص الثقافة، بل لان الالتباس هنا والخلط ينطوي على خسارة كبيرة ايضا لاننا سنفقد مع هذا الخلط شرط النشر والثقافة الاساسي، انه جوهر قوانين السوق: «الحرية».
ستطل امامي الآن المقولة نفسها: الحرية ليست فوضى، لكنني من جديد أؤكد ان الخلط في الادوار هنا بين دور «المنظم» و«الرقيب» ذي السلطات التي تتيحها نصوص غامضة يطل من جديد. وامضي اكثر في التأكيد أن التعامل مع قضايا النشر والطباعة كنشاط غير تجاري لا ينطلق الا من دوافع لوضع كل هذه النشاطات في فضاء الرقابة الذي يقترحه علينا مثل هذا القانون بنصوصه، فضاء الرقابة المحكمة على كل ما له صلة بالثقافة والنشر والطباعة والصحافة طبعا.
لنرى مثلا كيف حدد القانون شروط الحصول على ترخيص انشاء مطبعة مثلما وردت في المادة (65). انه يكرر الشروط نفسها التي وضعها لاصدار الصحف تقريبا مع فوارق بسيطة. فهو اشترط الحصول على ترخيص من الوزارة فقط ولم ينص على موافقة مجلس الوزراء. لم يحدد رأسمالا لانشاء المطابع مثلما فعل مع الصحف، لكنه وفي تشابه لافت اعطى للوزارة في الفقرة (ج) من المادة نفسها السلطة التي اعطاها في حالة الصحف لرفض او قبول طلب مستوف للشروط. فهو في الفقرات (أ) و(ب) و(ج) يحدد شروط طلب انشاء مطبعة، لكنه يعود في الفقرة (ج) ايضا لكي يعطي للوزارة مهلة 60 يوما للبت في الطلب ويعطيها حق الرفض ايضا. ان النص على وجوب ان يكون الرفض مسببا ليس كافيا لكي يجعلنا نطمئن لدور المنظم، بل يجعلنا نستنتج ان هذه المادة انما تثير التباسا كبيرا عندما تعطي الوزارة حق رفض طلب مستوف للشروط مثلا. فلماذا مهلة الستين يوما ولماذا الرفض اذا كان الطلب مستوفيا للشروط؟ لن يمنع هذا النص من التساؤل عما اذا كانت هناك اسباب اخرى للرفض او القبول غير تلك الواردة في القانون نفسه.
ان فضاء الرقابة يتم تكريسه اولا في تحويل المفهوم نفسه، فالقانون لا يتعامل مع الطباعة والنشر كنشاط تجاري، بل كنشاط خاضع للرقابة المسبقة مكرسا المفهوم الذي يراد ترسيخه بقوة عندما يتم تقديم الثقافة والكتابة اي بعبارة اخرى «حرية التعبير» كرديف «للرقابة المسبقة».
فالقانون في المواد اللاحقة يمضي ليؤكد هذا التحول عندما اشترط حصول صاحب المطبعة على ترخيص مسبق لكل مطبوع ينوي طباعته على العكس من القانون القديم الذي لا يطلب من الطابع اكثر من الاخطار وايداع النسخ لان مسئولية الترخيص للمطبوع هي مسئولية المؤلف.
لكن بإجبار الطابع صاحب المطبعة على الحصول على ترخيص مسبق لكل مطبوع ينوي طباعته، فإن القانون لا يفعل سوى ان يحول الطابع بدوره الى «رقيب».
لقد حول القانون جزءا من وظيفة الرقابة الى اصحاب المطابع، فعلى هؤلاء ان يدققوا جيدا في الكتب والمطبوعات التي ينوون نشرها وان يمارسوا هذه الرقابة جيدا بأعين مفتوحين وان يستعينوا من دوافع الرقابة اسوأها: الخوف على الرزق.
عليهم ان يتحولوا من أصحاب عمل يبحثون عن رزقهم الى رقباء، وان يستعينوا من الرقباء هاجس التحريم والمنع وقراءة ما بين السطور والتفتيش عن العفريت في ثنايا الكلمات والنظر والتعامل بقانون اساسي لدى قراءة اي مطبوع: «الارتياب».
صاحب المطبعة سيكون مجبرا دونما وعي على هذا لان ثمة تحولا هائلا في مفهوم الطباعة كنشاط وتحولا في مصدر الرزق: لقد بات ترخيصه يصدر من وزارة الاعلام التي تطالبه بموجب هذا القانون بان يكون رقيبا نيابة عنها، وان يمارس عملية الرقابة على رزقه قبل ان يحيله الى رقباء الوزارة الرسميين.
عندما يكون النشر والطباعة مسكونين بهاجس الرقابة الى هذا الحد، وعندما يتوالد الرقباء صفا وراء الآخر، فأي ازدهار يمكن ان يأمله المرء لحركة الطباعة والنشر في بعديها الثقافي والفكري وفي بعدها التجاري؟ هل يمكن ان يفكر اي مستثمر الآن في الدخول الى سوق الطباعة والنشر طالما انه سيصبح في النهاية أسيرا بين سندان تحصيل رزقه ومطرقة دور الرقيب التي يفرضها عليه القانون؟.
ثمة ملمح اخير للمفارقة عندما يتساءل المرء عن الاسباب التي يمكن ان تدفع بوزارة مثل وزارة التجارة الى تطوير ادائها الى حد منح التراخيص والسجلات التجارية في غضون ساعات اذا كان الطلب مستوفيا والاعتماد المتزايد على تقنية الانترنت لانجاز المعاملات، وبين ان تحتاج وزارة الاعلام الى 45 يوما لكي تبت في طلب مستوف للشروط لاصدار صحيفة و60 يوما لكي تبت في الترخيص لمطبعة؟ والأدهى من ذلك ان لها ايضا حق الرفض لاسباب لم ترد في القانون نفسه
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ