الاعتقاد السائد لدى البعض بأن الديمقراطية مزعجة ولا تتلاءم مع تنمية اقتصاد البلدان ليس له محل من الإعراب على المستوى الدولي. فقد أصبحت المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية والتجمعات الاقتصادية المناطقية تربط حاليا بين قدرة أي بلد على التنمية المستدامة وانفتاح ذلك البلد سياسيا.
ليس هذا فحسب، بل ان أمن البلد وسلامته يعتمدان على الديمقراطية، وهذا الشيء ليس ادعاء وإنما تثبته مجريات الحوادث على مر الزمن. ففي الثمانينات انفجر مفاعل نووي في مدينة «تشرنوبل» التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي وأدى ذلك الانفجار الى تسرب الإشعاعات النووية فعمل الجيش السوفياتي على استخدام طائرات مروحية لرمي الخرسانة على موقع الحدث ليدفن الإشعاع وليدفن أيضا الأشخاص الذين أصيبوا بالإشعاع في محاولة منه لإصلاح الوضع من دون أن يعرف أحد سواء داخل الاتحاد السوفياتي أو خارجه بذلك. ولكن الإشعاع وصل الى دولة مجاورة (السويد) التي يعيش شعبها في ظل نظام ديمقراطي وصحافة حرة. وبمجرد وصول الإشعاع الى السويد ومعرفة الصحافة بوجود إشعاع غير معروف المصدر أخبر الناس بذلك، ومباشرة بدأت الدولة تستعد للمشكلة التي اكتشفت لاحقا وعرف مصدرها بأنها مدينة واقعة تحت السيطرة السوفياتية الدكتاتورية التي تؤمن بالحجر على أنفاس الناس تحت مسميات كثيرة من بينها حماية حقوق الطبقة العاملة التي تمّ دفن بعض أفرادها بالخرسانة.
الدكتاتورية (عكس الديمقراطية) طريق للدمار، دمار البلدان ودمار الأشخاص المسيطرين على تلك البلدان. وحتى عندما تكون هناك إنجازات تكون بالخطأ وعلى حساب شيء آخر. ففي الخمسينات طلب الأمين العام للحزب الشيوعي جوزيف ستالين تشييد فندق كبير، وتم بالفعل إنشاء لجنة هندسية ثم قسمت مهماتها، بحيث يتم تقديم ثلاثة تصميمات كل تصميم يحتوي على ألف غرفة، على أن يقوم ستالين باختيار أحد تلك التصميمات. وهكذا اشتغل المهندسون والمعماريون ليل نهار وأعدوا ثلاثة تصميمات تتنافس فيما بينها، وجاء اليوم الموعود وقدموها الى ستالين لاختيار واحد منها. ستالين كان مشغولا في تلك الفترة (على ما يبدو) ورأى أمامه ثلاثة ملفات بتصميمات مختلفة، فسحب قلمه ووقع عليها جميعها. أعضاء اللجنة خافوا من الإشارة إليه بأن عليه ان يختار واحدا فقط وليس التوقيع على الثلاثة، ولم يتجرأ أحد بقول كلمة واحدة خوفا على رقبته. ولذلك قررت اللجنة إقامة الفندق بثلاثة آلاف غرفة، وتمت إعادة التصميم بحيث يتم ربط التصميمات بعضها ببعض، كل ذلك على حساب الموازنة ومن دون غاية محددة.
هذه الدولة العظمى التي ذهبت إلى الفضاء وشيدت ما كان يأمر به أمناء الحزب الشيوعي انهارت في مطلع التسعينات وكأنها لم تكن أبدا. والأمثلة الأخرى كثيرة وكثيرة ولن يكن آخرها الطاغية صدام حسين الذي كان مجرد ذكر اسمه أمام أحد العراقيين في داخل أو خارج العراق يشكل رعبا له.
هذا الدكتاتور كان قد أجرى تصويتا شعبيا على رئاسته قبل فترة وجيزة من إسقاطه، وقال ان مئة في المئة من الشعب العراقي صوت لصالحه. أما الآن فقد اختفى والدنيا تلعنه وشعبه يلاحقه لاصطياده والاقتصاص منه. وصدام حسين لم يكن سيسقط بهذه الطريقة لو كان شعبه يحبه، ولكن كثيرا من أبناء الشعب وجدوا الاستعمار أفضل لهم من هذا الحاكم المستبد، فالاستعمار يمكن مقاومته ويمكن الدخول معه في عملية سياسية معينة بهدف إعادة السيادة الوطنية، أما الدكتاتور فقد استلب سيادة شعبه ووطنه وغدا مجرد نمر من ورق.
والحديث الذي يحاول طرحه البعض في البحرين خاطئ عندما يقولون إن فسح المجال أمام حرية التعبير يضر البلاد أو يشوه السمعة أو أي شيء آخر، بل ان العكس هو الصحيح. فنشر خبر يزعج الحكومة أفضل من عدم نشره بينما الوضع يغلي والحركة المضادة تتصاعد وتأخذ أنماطا مختلفة تهز الوضع السياسي بين فترة وأخرى. فمهما كان الأمر فإن الندوات والتنظيمات العلنية والصحافة كلها مكشوفة وعلنية وهي ظواهر حسنة، بعكس لو كانت الأمور تحت الأرض والحكومة خائفة من ظهور المجهول في أي وقت.
كما أن الحديث الذي يورده البعض لم يؤثر على مكانة البحرين. فما كان قويا ازداد قوة، وما كان ضعيفا بحاجة إلى كشف أسباب الضعف. وفي كثير من الأحيان فإن الضعف بسبب فساد يحتمي تحت مسمى معين، وفي زمن الشفافية من المفترض ان يخاف الفاسد. فلا خير في بلاد لا يأمن فيها إلا الفاسد، ولا خير في ثروة كبيرة حصل عليها فرد ما بالسطو على مصرف أو بتجريد أناس من أراضيهم وممتلكاتهم. الثروة التي يسعد بها الإنسان هي الثروة التي حصل عليها عن طريق الحلال ومن دون ارتكاب المفاسد.
البحرين وبسبب انفتاحها السياسي الاخير عززت من قوتها خلال الفترة الماضية. فقد تم رفع التصنيف الائتماني للبحرين من قبل ثلاث مؤسسات دولية كبرى. فمؤسسة Fitch رفعت التصنيف الإئتماني للبحرين، كما رفعت مؤسسة Moody التصنيف قبل ذلك بفترة وجيزة، في الوقت ذاته أعلنت مؤسسة دولية أخرى هي Standard & Poors تخصيص تصنيف ائتماني مماثل. وهذه المؤسسات تعتمد على تقارير خاصة غير رسمية وتتسلم تقارير سرية من خدمات تعتمدها عن الوضع السياسي قبل ان ترفع درجة الائتمان. ويعود فضل ترفيع درجة البحرين الى مرحلة الانفتاح السياسي التي بدأت في مطلع العام 2001. وأملنا ان يعي بعض المسئولين ذلك ويتوقفوا عن محاولة إرجاع البحرين الى الوراء من خلال قمع الصحافة او قمع الحريات النقابية أو السياسية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ