ربما أقوى برنامج سياسي تنتجه الادارة الأميركية المتطرفة الحالية، مسلسل سياسي درامي طويل متعدد الفصول، وبحبكة درامية مشوقة، المسلسل السياسي الجديد الشهير، سيطلق عليه الدول الموقعة على حلف بغداد لانشاء منظمة شرق أوسطية. وكالعادة فان كل شيء في أميركا يعتبر صفقة تجارية وهذه احدى أهم الصفقات التجارية الأميركية، حتى اكرام الضيف في أميركا، صفقة تجارية (دييل) ولا يؤمنون باكرام الضيف، الأميركي يقول لك عندما يضيفك بفنجان قهوة: «هل أستطيع شراء قهوة لك؟» ولا يقول هل أقدم لك فنجان قهوة؟ في بيته. اذن هذه العقلية الأميركية في التعامل مع الآخرين نمط أميركي دارج تطبقه الإدارة الحالية في السياسة، وأكبر دليل على ذلك شراء ذمة قادة صدام لفتح بغداد على مصراعيها للغزاة، لكن هذه الممارسة يعتبرونها جزءا من ثقافتهم، بل كرم وصدقة يتصدقون بها على الآخرين، ودخولهم بلدان ذات سيادة ومستقلة يعتبرونه تحريرا من الدكتاتورية. اذا كانوا صادقين معنا حقا، لماذا لا يساعدون الشعوب العربية في تطبيق الديمقراطية في بلدانهم، وازاحة دكتاتوريين غير صدام، بدلا من دعمهم بقوة.
السياسة الأميركية تعتقد ان ما تعتبره تحريرا للعراق، يؤهلها لانشاء شركات أميركية متعددة الجنسيات، وعبر وطنية لاعمار العراق، ومنظمة شرق أوسطية تشترك فيها «اسرائيل» وتركيا وأفغانستان والدول العربية الاخرى، ويكون مقرها بغداد، مركز الثقل السياسي الجديد في «الشرق الأوسط» وبالتالي مركزا للحلف الجديد القديم الذي يعاد أحياؤه.
التحرك السياسي الأميركي الجديد في الشرق الأوسط يستمد نشاطه من بغداد، جورج بوش في خطابه بجامعة جنوب كر ولاينا أعلن صراحة ان تنفيذ المسلسل السياسي الجديد سيتم الاتفاق عليه في اجتماع يعقد في المنامة قريبا. الولايات المتحدة استعجلت توزيع أدوار المسلسل حسب أهمية الممثلين المشاركين فيه وقدرتهم على احداث تغيير دراماتيكي في خريطة المنطقة وانظمتها، وبسرعة استدعت مجلس الأمن وأصدرت قرارا منه يرفع العقوبات بموافقة الجميع حتى سورية التي تغيبت، وللحصول على اعتراف دولي بشرعية سيطرة قواتها وقوات بريطانيا على مقدرات وثروات العراق التي يجب ان تكون للعراقيين، وبذلك منحت الأمم المتحدة بصمت شديد من الأمين العام للأمم المتحدة انتدابا استعماريا على العراق.
يذكر ان مجلس الوصاية التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة قد ألغته الأمم المتحدة منذ مدة بخروج آخر مستعمر من أرض مستعمرة. تصرف أميركا بأمور الانتاج والتصدير للثروة النفطية للعراق، يترتب عليه أمورا خطيرة بل أكاد اجزم ان الأمر ستترتب عليه أخطر الامور التي ستهدد استقلال العراق الاقتصادي، وبالتالي امكان ادخال العراق بالتزامات تعاقدية تجعل مستقبل هذه الثروة مرهونا بمصالح الدول الكبرى وبقية الدول المستفيدة من تكبيل العراق مستقبلا بقيود لا تتيح له امكان التصرف الحر بهذه الثروة. من البديهي ان غياب العراق كدولة وكنظام سياسي عن المشاركة فيما يجري الآن من مشاورات لاعداد صوغ آليات رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق من دون ان يكون العراق ممثلا فيها، سيؤدي حتما الى قيام الدول القائمة بهذا الأمر بتغليب ما يخدم مصالحها الآنية والمستقبلية في صوغ الآليات التي ستعتمد في القرارات الخاصة بكيفية رفع العقوبات عن العراق، وبالتأكيد فان مصلحة العراق الغائب أو المغيب ستكون آخر شيء يمكن ان يؤخذ في الاعتبار.
وقد بدأت تظهر ملامح النزاع على مسألة اقتسام المصالح في هذه القضية من خلال التصريحات المتضاربة فيما بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بعد صوغ القرار وفقا لآليات تخدم مصالحها، وخصوصا ان العراق تتوافر فيه الآن مصادر تمويل من أرصدة مجمدة وأموال مودعة للنظام السابق وعوائد تصدير النفط، وفق برنامج النفط مقابل الغذاء المودعة باشراف الأمم المتحدة بالاضافة الى الاموال التي جمعتها الأمم المتحدة قبل الحرب وبعدها، لتقديم المساعدات الانسانية، وكذلك المساعدات التي قدمتها مختلف الدول، ناهيك عن ان الدول المحتلة هي مسئولة وفق القانون الدولي عن تقديم المساهمة الرئيسية في تحمل نفقات الاغاثة واعادة الاعمار والتعويض عن الاضرار للبلاد التي احتلتها او دخلت اراضيها بقوة السلاح وهذا ما حصل للكويت التي حصلت ومازالت تحصل على التعويض الكامل جراء احتلال نظام صدام لها للعام 1990، اذن عند نجاح الخطة الأميركية لاحياء حلف بغداد، ستتضح ملامح الشرق الأوسطية الجديدة التي ستتبعها الشراكة المتوسطية لاشراك الغرب بكامله في اقتسام ثروات العرب في الشرق أو الغرب.
قبول النظام الرسمي العربي بعد حرب تحرير الكويت في 1991 بالتسوية السلمية مع «اسرائيل» كخيار استراتيجي وحيد، جعل الدول العربية تحضر مؤتمر مدريد في العام نفسه. وكان لانهيار الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى وقع قوي على السياسة العربية، فقد كانت تنافس الولايات المتحدة وتشاركها في رعاية عملية التسوية، حتى سقوطها المدوي، وانفراد واشنطن بالرعاية الكاملة للمفاوضات العربية الاسرائيلية بانحياز كامل لاسرائيل، اثر على معارضة بعض الدول العربية التي كانت تسمى نفسها بالثورية على تغيير مواقفها السياسية مجبرة، وكان لابد من تقديم الدول العربية لتنازلات مؤلمة وتم فعلا تجزئة الوفود العربية المتفاوضة، وانفراد «اسرائيل» بكل دولة عربية على حدة، بايعاز من السيد الأميركي. ونتيجة لذلك الزخم التفاوضي الفلسطيني بالذات فوجئنا بتوقيع اتفاق اوسلو في 13 سبتمبر/ أيلول 1993م بين السلطة الفلسطينية و«اسرائيل» تبعه بعد عام اتفاق وادي عربة بين «اسرائيل» والأردن، في الوقت الذي كانت المسارات الأخرى (السوري واللبناني) تشهد عمليات شد وجذب، وارتخاء وتوتر لم يمنع من عقد المزيد من الصفقات مع الجانب الفلسطيني الذي كان يعتبر المحور الرئيسي في عملية التسوية برمتها.
وكان الرهان الكبير الذي دخلته الولايات المتحدة و«اسرائيل» يعتمد بدرجة كبيرة على الجانب الاقتصادي، نظرا لما تمتلكه الدولة العبرية من قدرة تتفوق على كل دول الطوق (مصر وسورية ولبنان والأردن... ولاحقا الضفة الغربية وقطاع غزة)، مدعومة برأس مال يهودي متمركز في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، ناهيك عن اللوبيات الصهيونية المنتشرة في أكثر من عاصمة كبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية طبعا.
وفي سياق واقع كهذا برزت فكرة (الشرق أوسطية) التي افرد لها شيمون بيريز كتابا كاملا نظر من خلاله لأهمية تجسيد هذا الشعار على أرض الواقع استنادا الى الفعل الاقتصادي الذي يراه حاسما في موضوع تطبيع العلاقات بين تل أبيب والدول العربية. الا ان احتلال العراق ادخل أميركا مباشرة في عملية التكوين السياسي الشرق أوسطي. ولكن تبدأ رحلة الألف ميل بخطوة، فقد عقدت المؤتمرات الاقليمية التي ضمت الدول العربية و«اسرائيل» اضافة الى تركيا واثيوبيا ودول أوروبا والولايات المتحدة وبعض الدول البعيدة، ما أثار تساؤلا جديا عن فحوى (الشرق الأوسط الجديد) الذي يريده بيريز والادارة الأميركية فهو بلا شك ليس تجمعا جغرافيا، انما قام على اساس خلفيات سياسية تحددت بعد انتهاء حرب الخليج الثانية وانهيار المنظمومة الاشتراكية. وكان الهدف البارز في كل المؤتمرات التي عقدت يتمحور عن كيفية خلق علاقات طبيعية بين «اسرائيل» وجيرانها، أي اسقاط جميع اشكال المقاطعة العربية لاسرائيل وانهائها حتى قبل الولوج في مفاوضات التسوية على بعض المسارات لذلك كان الضغط قويا من ناحية واشنطن لالغاء المقاطعة أولا المقاطعة العربية للكيان فما ان عاد موقعو اتفاق أوسلو الى بلدانهم حتى اصدرت الجامعة العربية قرارا مثيرا يقضي بالغاء المقاطعة من الدرجتين الثانية والثالثة، وفي ضوء هذا القرار اتخذ مجلس التعاون الخليجي نهاية العام 1994 قرارا مماثلا، شجع الشركات التي تتعامل مع الكيان على الاستمرار في الضغط على حكوماتها لاسقاط كل اشكال المقاطعة.
وبعد اتفاق وادي عربة، وما تبعه من تطبيع مع الكيان، فتح الباب على مصراعيه للاقتصاد الصهيوني الذي غزا أسواق الدول الصديقة للعرب والتي كانت متضامنة مع قضاياهم وملتزمة بعدم اقامة اي نوع من العلاقات مع العدو الصهيوني فتضاعفت التجارة الخارجية وتحول النمو الاقتصادي من سلبي في الثمانينات يصل فيه التضخم الى 400 في المئة الى نمو ايجابي في التسعينات يفوق معدلات النمو في الدول العربية، وخصوصا باعتماد الكيان على الحقول الاقتصادية الجديدة مثل الالكترونيات، وأجهزة الحاسوب والبرامج. في هذا الوقت كان اقليم الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية يزداد تبعية للكيان بحكم اتفاق (أوسلو) وذهاب السلطة الفلسطينية بعيدا عن مسألة التنازلات فالاقتصاد الاسرائيلي يتفوق على اقتصاد الضفة والقطاع بأكثر من عشرين مرة، ويفوق نظيره الاردني بنحو خمسة عشر مرة، ما يعني ان الحديث عن تشكيل مثلث قوامه الكيان والأردن، والحكم الذاتي الفلسطيني، الذي جرى الحديث عنه ابان زهوة توقيع الاتفاق... هذا المثلث لن يكون في حال تأسيسه، إلا اسرائيلي الرأس والقيادة، بالضبط كما هو الحال مع السوق الشرق أوسطية. الأمر نفسه ينطبق على الاقتصاد الأردني والمصري والمغربي والموريتاني والقطري.
بهذا يكون الاقتصاد البوابة الرئيسية التي يدخل منها الأميركان والاسرائيليون عن طريق توقيع اتفاق لانشاء منطاق حرة مع أميركا و«إسرائيل». مشروع المنطقة الحرة سيطبق قريبا في الأردن ومصر والبحرين وقطر وعمان وهكذا دواليك، حتى يكتمل الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي مع «إسرائيل» ودول الشرق الأوسط الأخرى بعد تنفيذ خريطة الطريق وانشاء دولة فلسطينية في العام 2005 ليعلن «حلف بغداد» الجديد وتسقط بذلك الجامعة العربية
العدد 268 - السبت 31 مايو 2003م الموافق 29 ربيع الاول 1424هـ