ثرثار لا يمل ولا يكل، يتحدث بكل لغات العالم ويجيد فنونها ويتابع اختراعاتها وابتكاراتها يتنقل بنا من فن إلى آخر ومن حديث هادئ إلى جدل ساخن ونقاش محتدم إنه بمثابة المدرس الذي يلقن ويشرح ويصب في آذاننا وقلوبنا وأعماقنا.
آخر ما توصل إليه العلم الحديث وإذ شئنا اخذنا معه في جولة حامية يطلعنا على ويلات الحروب ودمارها تاريخ وحضارات عادات وتقاليد قيم ومفاهيم ونحن. نتجول معه بأعصاب مخدرة نسمع ما يقول ونرى ما يعرضه علينا من دون نقاش وقد تحولنا إلى خشب موجهة... انه ضيفنا الحاضري الثرثار «إنه التلفزيون» الذي سيطر على حياتنا بكل جوانبها ينقلها إلى عوالم بعيدة تاخذنا في حياة اليفة وادعة بسيطة تعودنا عليها وعشقناها بما يزودنا به من ثقافات وعادات وعلوم وآداب حتى هجرنا عاداتنا وتقاليدنا الاجتماعية القديمة إذ كنا نشعر معها بالتقارب مع الأهل والجيران فما ان يأتي المساء حتى تبدأ حياة جديدة من نوع آخر بعيدة عن متاعب العمل وهمومه جلسات أليفة تظللها روح المحبة والتعاون بين أفراد المجتمع الواحد تثار فيها مختلف القضايا وتطرح الحلول مشكلات كثيرة قد يصعب على الفرد تجاوزها الا برأي الجماعة لدرجة الحي باكمله يعيش حياة الأسرة الواحدة ويساهم أفراده في إيجاد حلول لما يطرح من قضايا في أجواء عائلية تسودها علاقات حميمية بالجيران والأقارب والأصدقاء إنها لذة الحياة الحقيقية ولكن للأسف الشديد لم نحرص عليها ولم نحفظ لها الود والعهود.
إنه هذا الضيف الثرثار الذي أخذنا في عوالمنا البسيطة واستعبد أوقاتنا فلا نستطيع التوجه إلى الاخرين وهيمن على مجالسنا وعلى ما يدور بيننا من أحاديث وتسلط على كل تجمع عائلي فعزل كل فرد عن الآخر وشغلنا عن مناقشة امورنا وغيب عن خواطرنا الهدف الحقيقي لهذه الزيارة أو تلك الجلسة بين الأهل والاقارب فيعيش كل منا بمغزل عن الآخر لا يشاركه همومه ولا أفكاره. نعم لقد تمكن هذا الجهاز من استعمار أفكارنا ومشاعرنا وسيطر على علاقاتنا ببعضنا بعضا وجعلنا نغيب من أعماقنا وتعلمنا من ترثرته الصمت ومن ضجيجه الهدوء والسكينة إذ يتباعد بحضوره كل فرد عن الآخر حتى في الاسرة الواحدة إلا من مسلسل يثار حول الحديث أو برنامج سياسي أو اجتماعي يطرح قضية الساعة فتزداد الغربة بين افراد العائلة الواحدة وتتباعد المسافات بين افكار هذا وذاك المشكلات الفردية والعائلية امام ما يفرضه من قضايا وهموم وفواجع انسانية، وتسيطر الفردية على كل قضية فكل فرد يعيش وحيدا في قضبان معاناته بعيدا عن الآخرين يبحث عن وسيلة تساعده على تخطي همومه ومتاعبه، حتى الاحاديث بين الناس يختار عناوينها ويديرها التلفزيون إذ يتسمر الجميع حوله ليشاهد ما يعرضه اما للتسليم به كموضوع واما الاثارة جدل ونقاش اذ ما فكر من زيارة لقريب أو صديق - لقد اثر علينا سلبا وإجابا وما يعنينا في حديثنا هذا هو آثاره السلبية أما الايجابية فظاهرة اللعيان.
لقد أثر بعمق على علاقاتنا الاجتماعية الانسانية ببعضنا حتى اصبح هو على الصديق والقريب والجار ولا أحد غيره.
وتلعب الدعاية الاعلامية دورها فيما نستعمله ونقتينه حتى وإن كان تافها مشوها الا أننا نتفاخر به ونتسابق على شرائه لنحتدي بغيرنا في مجاراة أية دعاية اعلامية لاي منتج يعرض في التلفزيون متجاهلين انها دعاية ترويجية تعرض لاغراض تجارية استهلاكية أما اذا عجز البعض عن اقتناء ما روج له فقد يتهم بالخلف عن مجاواة الحضارة فيشعر بالتعاسة إذ فشل في الوصول إلى مستوى لائق من العيش حب رأى الاعلان.
والواقع ان هذه الوسيلة الاعلامية قد غيرت الكثير من افكارنا وتطلعاتنا لما يدور حولنا من حوادث عالمية وعربية تحتل المكانة الرئيسية في ثقافاتنا بل سيطرت وأحكمت قبضتها على افكارنا وباعدت بين افراد الاسرة الواحد في الرأي والتفكير فاما مؤيد لهذا أو معارض لذاك... ولكنني لابد ان اقف مع هذا الضيف الحضاري وقفة صدق لماذا نحمله الكثير من اخطائنا فاي ذنب له في اختيارنا الغربة والتباعد وهجرنا كل ما هو ثمين ودفين في اعماقنا ووضعنا هذا الجهاز حتى في الممرات والمقاهي العامة
العدد 268 - السبت 31 مايو 2003م الموافق 29 ربيع الاول 1424هـ