العدد 268 - السبت 31 مايو 2003م الموافق 29 ربيع الاول 1424هـ

مبالغتان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

باشرت القوات الأميركية حملة عشوائية واسعة تحت شعار «الردع الحاسم» بذريعة مطاردة البعثيين في مختلف القرى والمدن والأحياء الشعبية في بغداد. وتأتي الحملة بعد ازدياد عمليات المقاومة المدنية والمسلحة ضد الاحتلال، الأمر الذي فرض على القيادة المركزية اتخاذ إجراءات «رادعة» ضد كل «مشبوه»، فوقعت سلسلة تجاوزات أدت إلى قتل عشرات المدنيين الأبرياء. قبل قرار «الردع» بأيام صدرت بيانات من مصادر مجهولة تدعي قيامها بعمليات المقاومة ونسبت بعض «البيانات» تلك العمليات إلى «منظمات بعثية» وأحيانا ربطت البيانات المقاومة ضد الاحتلال بقيادة الرئيس السابق صدام حسين. وذهبت بعض البيانات (وهي كاذبة في كل الحالات) إلى القول إن الرئيس صدام يشرف شخصيا على تنظيم المقاومة وإدارة غرفة عمليات مواجهة الاحتلال. فالبيانات المشبوهة التي صدرت عن أكثر من جهة مجهولة ووزعت بطرق وأساليب تذكّر بتلك التي تصدر عن أسامة بن لادن وبطولاته... يرجح أن تكون كاذبة. فهي تنسب بطولات إلى رئيس مخلوع فشل في الدفاع عن دولته. وهي أيضا تريد زرع شكوك وبلبلة في وسط الشارع العراقي الذي يعاني فعلا من الاحتلال. وأخيرا فهي تريد إعطاء ذريعة للاحتلال باستخدام كل أساليب القمع (الردع) ضد المدنيين تحت شعار «مطاردة البعثيين» في كل مكان وزمان.

بعض البيانات المشبوهة التي صدرت تباعا حققت ثلاثة أهداف سيئة، الأول: إن المقاومة منظمة وليست عفوية وهناك جهة رسمية تنتمي إلى النظام القديم تقف وراء أعمالها. الثاني: ارباك المقاومة الفعلية ووضع الناس في حيرة من أمرهم. فهم إذا قاتلوا الاحتلال فهذا يعني أنه يصب في مصلحة النظام السابق واحتمال عودة الرئيس السابق إلى الحكم وهذا ما لا يريدوه، وإذا استكانوا فهذا يعني دوام الاحتلال فترة طويلة في وقت لاتزال «فزاعة» صدام موجودة في الخفاء (كما هو أمر أسامة) في مكان مجهول لا يعرف أحد عنوانه باستثناء قلة قليلة منها أجهزة الاستطلاع الأميركية. الثالث: إظهار الأمر للرأي العام الدولي وكل المراقبين بأن الشعب العراقي موافق على الاحتلال باستثناء قلة قليلة من البعثيين تنتمي إلى فلول النظام البائد. وهذا الهدف الأخير يعطي ذريعة كافية لقوات الاحتلال بشن حملة «رادعة» لملاحقة ومطاردة هذه القلة التي تريد تشويش «فرحة» الشعب العراقي بالاحتلال.

يترافق هذا الربط العشوائي و«المشبوه» بين عمليات المقاومة ونظام صدام السابق مع كلام آخر لا يقل سوءا وهو إكثار الكلام والمبالغة في قصة «الخيانة» والغدر بصدام من أقرب المقربين إليه.

المبالغة في إظهار «الخيانة» وكأنها القصة الوحيدة في الحرب على العراق ومعركة بغداد مسألة خطيرة لأنها تقول: ان كل الأمور كانت على ما يرام باستثناء تلك «القلة القليلة» التي رتبت الانقلاب ونظمت المؤامرة سرا مع قيادة الاحتلال العسكرية ومنعت صدام وقواته من خوض «أم الحواسم» وكسر شوكة الولايات المتحدة وقهر قواتها على أسوار بغداد.

الخيانة حصلت والمؤامرة التي قيل ان أقرب المقربين من صدام وعشيرته وأسرته اشترك فيها صحيحة... إلا أن المبالغة في نسج خيوط الخيانة وشبكات المؤامرة موضوع خطير وأخطر من ربط عمليات المقاومة ضد الاحتلال بفلول صدام أحيانا وبإشرافه الشخصي أحيانا أخرى.

المبالغتان خطيرتان وكل واحدة منهما تصب في مصلحة الاحتلال ودوامه وتبرئة النظام السابق ودوره في كسر إرادة الشعب العراقي وإذلاله واخضاعه لفترة ثلاثة عقود لنظام من القوالب العشائرية والأسرية باسم «الحزب» و«الثورة».

الخيانة حصلت ولكن ليس بسبب الغدر الذي صدر عن أقرب حلقة من حلقات أسرة صدام، بل نتيجة النظام نفسه الذي اعتمد الحلقات الضيقة في حكمه ومنع على الناس حق المشاركة.

فالدولة التي لا تصالح شعبها في الداخل لا تستطيع أن تصمد لمواجهة الخارج حين تأتي اللحظة. والشعب الذي ذاق الذل وفرض عليه الخنوع وعاش السنوات في ظل الرهبة والخوف لا يمكن أن يصدر عنه في وقت الشدة سوى الانهيار والاستسلام في لحظة الصدمة الأولى. فالشعب العراقي وبعد مرور قرابة الشهرين على سقوط بغداد لايزال يعيش ارتدادات الزلزال وهو حتى الآن لا يصدق ما حصل ولماذا حصل وكيف؟

ومع أن الشعب العراقي لم يخرج كليا من دائرة الصدمة الأولى، نجحت بعض قطاعاته في التصدي مدنيا للدفاع عن تقاليدها وعاداتها بأساليب قديمة وعفوية وكبدت قوات الاحتلال خسائر لا يمكن التقليل من شأنها. لذلك يرجح أن هناك أجهزة معينة لجأت إلى اصدار بيانات مجهولة العنوان والاسم تنسب عمليات المقاومة إلى «البعثيين» وتربطها بمنظمات يشرف عليها صدام شخصيا.

هذه مبالغة وفي الآن محاولة تشويه سمعة المقاومة الحقيقية وإرباكها وتقليل حماسها لمواجهة الاحتلال وإعطاء ذريعة للقوات الأميركية باستخدام كل وسائل الردع الدموي لملاحقة «فلول البعثيين».

المبالغة في إعطاء دور خاص ومميز لصدام في قيادة المقاومة ضد الاحتلال تشبه إلى حد كبير تلك المبالغة في نسج قصة «الخيانات» وأخبار «المؤامرات» التي دبرها أقرباء وأولاد عم واخوة صدام من أمه.

المبالغة الأولى تريد القول إن الشعب العراقي مؤيد للاحتلال باستثناء زمرة صدام. والثانية تريد القول إن صدام كان على قاب قوسين من النصر وهزيمة الاحتلال لو لم تحصل المؤامرة والخيانة ضده من أقرب الناس إليه.

المبالغتان خطيرتان وخلاصتهما إهانة الشعب العراقي وإبقاء الاحتلال إلى أطول فترة ممكنة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 268 - السبت 31 مايو 2003م الموافق 29 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً