أن تكون مثقفا ومبدعا يعلّق منجزاته على الرف طوال العام ولا يذوق مجتمعه من إنتاجاته شيئا، فتلك واحدة من أرقى مراتب البخل والعبث.
تلك للأسف عقدة الكثيرين من نخبنا المثقفة في البحرين، فهي تفضل دائما أن تعيش الإبداع لذاتها أو لمجموعة ضيقة من مقربيها، وترى في تلك الذريعة قمة «الوعي الحداثي» الذي في المقابل لا يحسبه مجتمعها المتعطش سوى «جهلا مغلفا».
صحيح أن الموهبة تولد عادة في محيط الذات، وتنمو وتترعرع بعيدا عن أعين الناس، وصحيح أن مؤسساتنا الاجتماعية الرسمية والأهلية تظلم وتقسو أحيانا كثيرة على العقول المبدعة، وتقابلها غالبا بالصدود واللامبالاة، غير أن ذلك كله لا يبرر معاداة المثقف لمجتمعه.
الصدود الاجتماعي مهما بلغ لا يسوّغ تقوقع المواهب على نفسها، كما لا يعد هذا التجاهل ذريعة للاستخفاف بالعقلية الاجتماعية وتسفيهها يوميا عبر الأعمدة الإنشائية، والاستغراق في توهين الوعي الاجتماعي والتشدق بثقافة الآخر. فإن أكبر أسباب تراجع الوعي الثقافي في مجتمعاتنا تلك النرجسية المتوغلة في عقول عدد ليس قليل من مثقفينا ومبدعينا.
باستطاعة نُخب «الاستعلاء الثقافي» في مجتمعنا العودة إلى رؤية أنصار «الحركة الإنسانية الكلاسيكية» في القرن التاسع عشر، الذين وجدوا في مصطلح «الثقافة» مفهوما آخر يتجلى في الصورة المثلى لدماثة الخلق، كما ينظر زميلهم الشاعر والكاتب البريطاني ماثيو آرنولد إلى الثقافة باعتبارها إعادة بناء المثل الإنسانية، وبالتالي ربما تدرك هذه النخب في القرن الحادي والعشرين (أي بعد قرنين تقريبا) حجم المسئولية الإنسانية والاجتماعية الملقاة على عاتق متقلدي وسام «الثقافة»، فتدع البخل العلمي والعملي جانبا.
رجل الإنسانية الأعظم (ص) أكد هذا المفهوم قبل 14 قرنا بقوله إن «زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه». وأتبعه حفيده الإمام موسى الكاظم (ع) مشددا على أن «من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته». وبذلك تكتمل صورة العطاء الثقافي والإبداعي التي تناقض ما يروّج له هذه الأيام بعض «الحداثيين الجدد».
إبداع المجتمع لا تصنعه سوى نخبة المبدعين، وإذا تكاسلت هذه النخبة عن دورها في الحراك المجتمعي أو بالغت في شروطها ثم رفضها المجتمع أو قابلها بفتور فليس من حقها أن تلعنه كل يوم على صدر الصفحات تشهيرا واستهزاء. بل عليها أن تنظر إلى مواطن الخلل فتسعى (مجتمِعة) لمعالجتها بما أمكن، وإلا فأين الحرية الاجتماعية التي تتغنى بها وتجلد بها أبناء الجِلدة يوميا ثم لا تنفك أن تحرّم عليهم ممارستها؟!
ينبغي الإقرار أن المجتمع البحريني أصبح عرضة لعوامل «التعرية الثقافية» بسبب غرور/ أو قل سطحية/ أو سمِّه إحباط المثقفين، ولن يرجع إلى عنفوانه الثقافي إلا بتلاحم مثقفيه ومبدعيه، مع قليل من التواضع وروح المبادرة، وإلا فليسمحوا لي... لأنهم ليسوا كما يسمون أنفسهم.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 2588 - الثلثاء 06 أكتوبر 2009م الموافق 17 شوال 1430هـ
الضعيف لا يظلم
الفرد المبدع دائما يحاصر ويهمش ويقسى عليه من قبل النخب المتسلطة في المجتمع وترى فيه مزاحم قوي أتى بموهبة لا يملكونها فالبتالي قد يسرق البساط الذي هم جالسون عليه.. وهنا على القوي أن يسمح للضعيف أن يعبر عن ما لديه وليس لنا أن نطالب المبدع الفرد الضعيف بأن ينزل للمجتمع، والأجدر أن تطالب المؤسسات بذلك لأنها تعمل كمجموعة.. هذا ما أراه يا أستاذي الفاضل في مجتمعي