لماذا أصرت الإدارة الأميركية على ممارسة الضغط على السلطة الفلسطينية ومنعتها من مواصلة دعمها لطلب التصديق على تقرير القاضي ريتشارد غولدستون في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؟ ولماذا استخدمت حكومة بنيامين نتنياهو كل وسائل الابتزاز (التهديد بالمقاطعة وتعطيل تحويل العملات) في حال لم تسحب طلب التصويت على التقرير الذي يكشف جوانب من جرائم الحرب خلال العدوان على غزة؟ ولماذا وافقت حكومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس واستجابت للضغوط وحملة الابتزاز وقررت تأجيل التصويت إلى مارس/ آذار المقبل؟
إدارة الرئيس باراك أوباما لابد أن تكون على علم ودراية بردود الفعل الفلسطينية والعربية على مثل هذه الخطوة. واشنطن تدرك أن تورط السلطة في مثل هذا الموقف سيضعف الرئيس الفلسطيني وسيساهم في إضعافه شعبيا وسيعطي الذرائع لكل القوى المعارضة سياسيا أن تحسن مواقعها وتبدأ بهجوم مضاد متهمة حكومة رام الله بالتفريط والتخاذل والمتاجرة بدماء أهالي غزة. لماذا إذا اتجهت إدارة واشنطن إلى هذا المنحى في وقت تدعي أنها تدعم السلطة وتحارب «التطرف» وتراهن على المفاوضات الثلاثية في واشنطن؟ فهل أرادت واشنطن إضعاف السلطة وبهدلتها قبل بدء المفاوضات أم أنها خططت سلفا لإلغاء اللقاء الثلاثي بذريعة أن السلطة غير راغبة بالسلام؟
مهما كان الجواب فإن ما حصل أضعف السلطة الفلسطينية ووضعها في موقف حرج وأسقط عنها صدقية اكتسبتها خلال الفترة التي أعقبت العدوان ما أدى إلى نمو شعبيتها في الشارع والتفاف القوى العاقلة حول حركة «فتح» بعد نجاحها في عقد مؤتمرها العام.
الموقف الأميركي مشبوه وغير مبرر لأنه أخذ ورقة قوية من السلطة ووهبها مجانا لتلك القوى المعترضة أصلا على فكرة التفاوض. فهل تعمدت إدارة أوباما ارتكاب هذه الخطوة بقصد إضعاف السلطة ومنعها من توحيد الشارع لخوض مفاوضات صعبة مع الاحتلال الإسرائيلي في السنة المقبلة أم أن إدارة واشنطن لا تريد أصلا التفاوض لأنها أدركت بأنها غير قادرة على أخذ «تنازلات» من حكومة الثنائي المتطرف ولا تستطيع أن تقدم أي جديد للسلطة وبالتالي افتعلت ذريعة حتى تغطي فشلها وتتهرب من المسئولية الدولية؟
لاشك في أن الجانب الرسمي الفلسطيني يتحمل مسئولية معنوية ورمزية لأن القرار الذي اتخذه بالموافقة على طلب تأجيل التصويت كان متسرعا وغير ذكي ولم يتم درسه من كل الزوايا السياسية. فالخطوة لم تكن موفقة وتحتاج إلى أكثر من «لجنة تحقيق» لإنتاج الأعذار التي تبررها. ومخاوف السلطة من المقاطعة الأميركية وتعطيل مفاوضات السلام وخنق أهالي الضفة بالمزيد من الحصار الاقتصادي والشح النقدي لا تفي بالتغطية على المسألة في جانبها السياسي والتزام الحكومة خلقيا في الدفاع عن الحد الأدنى من الحقوق المضمونة دوليا.
ارتباك السلطة دفعها إلى التردد، ومن ثم التراجع أمام الضغوط الأميركية والابتزاز الإسرائيلي، وهذا لا يعفي الرئيس الفلسطيني من مسئولية ارتكاب خطأ فادح سيؤدي إلى إضعافه أهليا ما سينعكس على ممارسة دوره خلال المفاوضات المزمع عقدها في واشنطن تحت شعار السلام. فمن يعجز عن تمرير تقرير دولي يكشف جوانب بسيطة من جرائم العدوان لا يستطيع أن ينتزع من حكومة تل أبيب دولة فلسطينية «قابلة للحياة» وعاصمتها القدس وخالية من المستوطنات وجدار الفصل العنصري؟ ومن لا يستطيع إقناع شعبه والفصائل الفلسطينية بصحة خياراته وصواب خطوته سيفتقد كل الطاقات المطلوبة منه للتوصل إلى صيغة عادلة للتسوية؟
مشكلة الرئيس الفلسطيني أنه يدرك هذه المعادلة الصعبة ومضاعفاتها ولكنه وافق على التورط بها على رغم علمه بأن المسألة ستنعكس على وضع المفاوضات وسيصبح عرضة للمزيد من الضغط لسبب واضح وهو أن أوباما لا يستطيع أن يقدم له أي مكسب في حال رفضت «إسرائيل» التنازل. وهذه القصة لا تحتاج إلى إعادة قراءة لأن عنوان المفاوضات (إذا عُقدت أصلا بحضور عباس) لن تؤدي إلى نتيجة سوى الفشل.
عدم انتباه حكومة رام الله لتلك المتغيرات التي حصلت دوليا وإقليميا وتراجع الملف الفلسطيني إلى مرتبة متدنية من اهتمامات أوباما نقطة سلبية تسجل ضد الرئيس عباس. وعدم ملاحظة الرئيس الفلسطيني لوجود تلك التحولات في أولويات الإدارة الأميركية وخلفيات إصرار واشنطن على الضغط لسحب التصويت على تقرير غولدستون خوفا على المفاوضات السلمية أدى إلى تفويت فرصة لمكسب معنوي في مجلس حقوق الإنسان مقابل خسارة مضمونة في مفاوضات يرجح أن تتعرض للتأجيل بذريعة انشغال البيت الأبيض بمعالجة الملف النووي الإيراني.
الرسالة الأميركية من وراء الضغط على عباس المعطوفة على تهديدات حكومة نتنياهو وابتزازها النفسي والنقدي كانت واضحة في عناوينها وهي تتلخص في أن واشنطن في صدد سحب مبادرتها السلمية حتى لا تسقط في مصيدة الفشل المحتوم. فالإدارة التي تراجعت عن مطلب تجميد الاستيطان ووافقت على بدء اللقاءات والمفاوضات تحت سقف توسيع المستوطنات وزيادة عدد الوحدات السكنية في القدس لا تتردد في مواصلة الضغط على نقاط ضعف الجانب الفلسطيني بذريعة أنه لا يساعد على استئناف خطوات السلام.
انقلاب الصورة مسألة واضحة. فالولايات المتحدة التي دخلت على خط مساعدة الشعب الفلسطيني وحقه في «دولة» أصبحت الآن تطالب السلطة بدعمها حتى تستطيع مساعدتها. وهذا الانقلاب يكشف عن ضعف أميركي في مواجهة «إسرائيل» وقوة إسرائيلية في الضغط لتدوير الزوايا وتحميل الشعب الفلسطيني مسئولية التهرب من إقرار مشروع السلام.
الصورة الآن أصبحت في تلاوينها متخالفة عن ذاك المشهد الذي أطل منه أوباما قبل ثمانية شهور. فالرئيس الأميركي اكتشف مدى صعوبة الملف الفلسطيني بسبب ذاك الموقع الخاص لدولة «إسرائيل» في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. والصعوبة التي أدركها أوباما لا يريد الاعتراف بها ولكنه بات على استعداد لتصديرها إلى الجانب الفلسطيني بذريعة أنه ضعيف وغير مؤهل للقيام بتنفيذ مهمة تبدو مستحيلة. وبما أن أوباما وجد في «المنشأة النووية الإيرانية الثانية» مناسبة للتهرب وتعديل برنامج الأولويات فقد كان من واجب السلطة الفلسطينية الانتباه لمخاطر التغيير في المعادلة الإقليمية.
إيران أصبحت أولا وهي تأتي الآن قبل الملف الأفغاني الذي وضعه أوباما على رأس قائمة مهمات إدراته. كذلك أصبح الموضوع الإيراني يشكل مخرجا لواشنطن للتهرب من كافة التزاماتها حتى تلك المتصلة بترتيب الملف العراقي. وكل هذه المتغيرات لم تأخذها السلطة الفلسطينية في الاعتبار حين وافقت على سحب التصويت مع علمها باحتمال حصول تداعيات سلبية ومضاعفات جانبية تضعفها في الداخل وتفتح المجال لتل أبيب لطرح بدائل وخيارات أخرى.
مسألة البدائل فكرة غير مستبعدة وخصوصا أن خطوة السلطة تصادفت مع نجاح «القناة الألمانية» في ترتيب صفقة مع «حماس» في غزة اقتضت الإفراج عن 20 أسيرة مقابل ذاك الشريط عن الجندي جلعاد شاليط (المزدوج الجنسية). وحصول موعد الإفراج عن الأسيرات في فترة تراجع السلطة عن التصويت على تقرير غولدستون أرسلت إشارات غير مريحة تذكر الشعب الفلسطيني بقوة «حماس» وضعف «فتح».
مصادفة إطلاق سراح الأسيرات ليس الجانب الوحيد من البهدلة التي طاولت الرئيس الفلسطيني وإنما هناك مصادفة دائمة وهي مواصلة أجنحة التطرف الصهيوني اقتحاماتها المتتالية للمسجد الأقصى في القدس.
السؤال لماذا أخطأت السلطة الفلسطينية في قراءة الملف من كل زواياه؟ أميركا اتخذت خطوتها لأنها اكتشفت عجزها في الموضوع الفلسطيني فتهربت منه باتجاه التفاوض مع إيران للتغطية على فشلها. و«إسرائيل» أطلقت سراح الأسيرات في موعد محدد تصادف مع مواصلة الاستيطان في الضفة والاقتحامات اليومية للأقصى لتؤكد فعليا ضعف السلطة وعدم جاهزيتها للتفاوض لأنها تعاني من غضب الشارع وانقلاب القوى السياسية على حكومة رام الله.
أهداف أميركا و«إسرائيل» واضحة من وراء الاعتراض على تقرير غولدستون بينما غايات السلطة الفلسطينية تحتاج فعلا إلى توضيح تعجز «لجنة التحقيق» عن كشف ملابساتها. لماذا إذا أخطأت السلطة في رؤية المشهد في جوانبه الدولية والإقليمية وتورطت في مشكلة داخلية ستضعفها أمام الشارع وأيضا خلال المفاوضات في حال قررت واشنطن استئنافها في ظل «الملف النووي الإيراني»؟
الجواب يتطلب بعض التدقيق. فإذا كانت السلطة أرادت ألا تعطي واشنطن وتل أبيب ذريعة لتعطيل المفاوضات فإنها تكون فعلا أعطتها تلك الذريعة للتهرب من الدعوة... والسبب الأميركي يعود إلى انشغال إدارة أوباما بالملف الإيراني والسبب الإسرائيلي يعود إلى ضعف الرئيس عباس وعدم قدرته على تمثيل وحدة الشعب الفلسطيني واتخاذ قرارات تقنع الشارع بصحة سياسة التفاوض.
سحب التصويت على تقرير غولدستون وتأجيل الموعد إلى فترة لاحقة أضعف السلطة داخليا وتفاوضيا وأعطى ذريعة للقوى السياسية لتحسين شروط اعتراضها. وهذا الخطأ كان بالإمكان تجاوزه لو حصل العكس وأصرت حكومة رام الله على التصويت فهي على الأقل تكون خسرت ورقة أميركية لا يمكن المراهنة عليها في الظروف الحالية وكسبت تأييد الشارع ما يعطيها قوة سياسية في حال حصلت المفاوضات أو تأجلت... أو انتقلت إلى مواجهة عنيفة مع حكومة نتنياهو.
الآن أصبحت مشكلة عباس مزدوجة إذ يرجح ألا يكسب العطف الأميركي ولا المرونة الإسرائيلية، وهو أيضا سيتحمل مسئولية التفريط بتقرير كان يفترض أن يكون ورقة فلسطينية ضد «إسرائيل» فأصبح ورقة تتمسك بها «حماس» التي رفضت التقرير بداية لتعود وتستخدمه ضد «فتح».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2588 - الثلثاء 06 أكتوبر 2009م الموافق 17 شوال 1430هـ
مقال منطقي و يكشف الكثير
أعجبني مقالك بصراحة و هو مختصر لكثير ما يجري و يكشف عن ملابسات عديدة فما يحاك ضد القضية الفلسطينية مستمر لا أقصد هنا فتح او حماس ففلسطين برمتها تعاني الويلات و ما حماس و فتح إلا ادوات جديدة بحسب وجهة نظري للمزيد من التفكك و دحر فلسطين نحو الهاوية