ينشط الكيان الصهيوني في هذه الأيام لتهيئة الأجواء الإعلامية والسياسية الدولية للقيام بعدوان جديد على قطاع غزة، وهو يستنفر قواه الدبلوماسية لإيجاد تغطية دولية وعربيّة للمجازر التي باشر القيام بها في الجولة الثانية، بعد انتهاء التهدئة، والتي سقط خلالها 43 شهيدا من الشعب الفلسطيني، من دون أن يحرّك العالم ساكنا.
ووسط حركة صهيونية أمنية وعسكرية متواصلة داخل فلسطين المحتلة، ودبلوماسية إسرائيلية نشطة حتى على بعض المحاور العربية التي باتت تشعر بالإحراج حيال ما يجري في غزة من حصارٍ تشارك فيه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يستعد العدو لتنفيذ مجازر جديدة، إلى جانب حصاره التجويعي المتواصل، وهو يراهن على استمرار التواطؤ العربي المشفوع بضغوط سياسية متواصلة على الفلسطينيين وفصائلهم المقاومة.
إننا في الوقت الذي نشعر بأن الانتخابات الصهيونية المقبلة قد تفتح شهية المسئولين الإسرائيليين أكثر لقتل المزيد من الفلسطينيين، لأن الدم الفلسطيني يجذب المزيد من الأصوات للشخصيات السياسية الصهيونية الطامحة، نعرف أيضا أنّ صمود الشعب الفلسطيني وقدرته على التعامل مع أبشع أنواع الحصار والعقاب الجماعي، وأفظع عمليات القتل والمجازر، سيمثّلان فضيحة أخرى للواقع العربي الرسمي وللأنظمة المتواطئة مع العدو، أو لتلك الحائزة على وسام الاعتدال الأميركي بجدارة واستحقاق!
وندرك -في الوقت عينه- أن غزة المقاومة والأبية، بشعبها الجريح والمقاوم، لن تكون لقمة سائغة في فم العدو الذي لايزال يتخوّف من التجربة اللبنانية وانعكاسها داخل فلسطين المحتلة، والذي يأخذ في الاعتبار ما يجري داخل الساحة العربية، ولذلك فهو في حيرة من أمره، إذ إنّه يعاني من مأزق الإقدام والإحجام الذي يدفعه إلى تحريك الآلة العسكرية، والطلب من هذا الفريق العربي أو ذاك التوسط لتجديد التهدئة.
إننا نقول للعرب، وخصوصا لأولئك الذين يتبرّعون بتقديم المواعظ للشعب الفلسطيني من داخل الجامعة وخارجها: صحيح أن الانقسام الفلسطيني يمثل تهديدا للقضية ولنضال الشعب الفلسطيني في سبيلها، إلاّ أنّ الانقسام الفلسطيني يمثل وجها من وجوه الانقسام العربي، كما أن التواطؤ العربي كان ولايزال سببا رئيسيا من أسباب الضياع والضعف الذي أصيبت به القضية. وبالتالي، فعلى العرب أن يتحملوا مسئولياتهم بدلا من أن يلقوا باللائمة على الفلسطينيين، وأن يقتربوا أكثر من القضية قبل أن تقترب النار من عروشهم ومواقعهم.
الإدارة الأميركية: خضوع للرؤية الإسرائيلية
وفي المشهد الأميركي، طالعتنا وزيرة الخارجية الأميركية التي تتحضّر للرحيل، بمرافعة عن «إنجازات» إدارتها، من لبنان إلى العراق وإلى أفغانستان وباكستان، وهي التي تعلم علم اليقين أن المخاض الجديد للشرق الأوسط لم يكن بفعل إدارتها وخططها، فهو انطلق وفق توجهات وحركة الشعوب والقوى الحيّة التي أذاقت إدارة المحافظين الجدد طعم الهزيمة المرة في لبنان، عندما هزمت «إسرائيل» في يوليو/ تموز 2006، كما في بقية المواقع العربية والإسلامية.
ومع ذلك، فإنَّ «رايس» تعترف بأن سمعة أميركا في العالم العربي ليست جيدة، من دون أن تشير إلى الأسباب الكامنة وراء ذلك، وأهمّها دعمها المطلق لـ»إسرائيل» في حربها العدوانية على لبنان، ومجازرها في فلسطين، ودعمها للاستيطان اليهودي وتهويد القدس، ومنعها المتواصل لمجلس الأمن من إدانة «إسرائيل».
وإلى جانب ذلك، تتحدث «رايس» عن أن الإدارة الأميركية المقبلة ستواجه عراقيل في سعيها لإحداث اختراقاتٍ للمشكلات التي فشلت إدارة بوش في حلها، وكأنها تحاول أن ترسم خطا بيانيا لإدارة أوباما ليسلك الطريق نفسه في التعاطي مع المسألة الفلسطينية ومع القضايا العربية والإسلامية، مع أنّ أوباما كان قد تعهّد في خطاباته ومواقفه أن يسلك خطا آخر، وأن يبدأ بمسار مختلف، انطلاقا من مسألة التغير المناخي، وإقفال معتقل «غوانتنامو» والمواقع العسكرية في كوبا وغيرها، وصولا إلى مسألة الانفتاح على الحوار في مسائل الشرق الأوسط وغيره. ولكن المسألة مع المسئولين الأميركيين هي أن تصوراتهم لقضايا المنطقة تظل خاضعة للرؤية الإسرائيلية التي تتكوّن بفعل علاقتهم باللوبي اليهودي والدوائر المؤثرة في القرار الأميركي، وهي التي تنظر إلى المنطقة بعيون إسرائيلية.
العراق: لماذا الاستعانة بالقوات الأميركية المحتلة؟
أما في العراق، فإننا في الوقت الذي نرحّب بقرار البرلمان العراقي الذي وافق فيه على انسحاب القوات الأجنبية الموجودة هناك، فإننا نتحفّظ عن حلول القوات الأميركية محلها، لأنها قوات احتلال، وهي التي كانت السبب في مأساة العراقيين المستمرة منذ سنوات، وإذا كان البعض يتحدث عن الحاجة إليها على مستوى التدريب، فإننا نتساءل: لماذا لا تتم الاستعانة بقوات عربية لتمارس هذا الدور من خلال التنسيق والتفاهم مع الدولة العراقية بما يحفظ مصالح العراق ومستقبله ووحدة شعبه وأراضيه؟
لبنان: الحفاظ على المقاومة كعامل رادع للعدوّ
وعندما نطل على المسألة اللبنانية من البوابة الجنوبية، فإننا نستشعر الكثير من الخطر في إقدام العدو على خطف مزارعين لبنانيين من داخل الأراضي اللبنانية، من دون أن تصدر أي مواقف إدانة صريحة عن الأمم المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي أو عن الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يؤكد أن لا سبيل إلى كفّ يد العدو إلا من خلال المقاومة التي ينبغي الحفاظ عليها كعامل قوة رادع وحاسم في مسألة العدوان الإسرائيلي، وخصوصا أن قوات اليونيفيل أثبتت بفعل هذه الحادثة وغيرها، وبفعل استمرار الاختراقات الإسرائيلية في الجو وغيره، أنها لا تمثل قوة حماية للبنان وللمدنيين اللبنانيين.
أما في الداخل اللبناني، فقد انتهت جلسة الحوار إلى قرار بالتهدئة -وكأن التهدئة في لبنان بحاجة إلى مؤتمر للحوار- وذلك بالامتناع عن إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والحزبية، كما برز في خطابات بعض الشخصيات الدينية التي كنا نأمل أن تستوحي القيم الدينية الروحية في مفردات خطاباتها العامة، لأن المطلوب منها أن تكون فوق الميول والاتجاهات والمحاور السياسية. وإلى جانب ذلك، فإن على الشعب اللبناني أن تكون مشاركته في الانتخابات المقبلة مشاركة في محاسبة الأشخاص الذين لم يحافظوا على الأمانة في احترام أصوات ناخبيهم الذين كانوا يأملون في أن يكون هؤلاء المنتخَبون حلا للمشكلة لا تعقيدا لها، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يتحركوا في خط التغيير من أجل ولادة لبنان الجديد الذي يهتم القائمون على شؤونه في الحكم بالفئات الفقيرة المشغولة بمشكلاتها المعيشية التي تتحرك في داخلها الضرائب التي تفرض على الفقراء، أمّا الأغنياء، فإنهم بعيدون عنها، لأن العين لا ترتفع فوق الحاجب في الامتيازات السياسية والطائفية والمذهبية... وتبقى هناك فرصة للفقراء في المال السياسي الذي يجتذب المتاجرين بمواقفهم في لعبة الأكثرية والأقلية التي تجعل لكل شخص ثمنا لصوته من خلال أرصدة الخارج والداخل... وفي نهاية المطاف، يحدثونك عن الانتخابات الحرّة في بلد يملك حرية الكلمة ولا يملك حرية اختيار الموقف.
وأخيرا، إننا أمام ما قدّمته المملكة العربية السعودية من مساعدات للبنانيين، في أعقاب حرب يوليو/ تموز، وما جرى من تصرف فيها أوحى بأنها لم تصل إلى المستحقين كما يجب، ندعو إلى إعادة النظر في مسألة التعاطي مع هذه الأمور بما يعيد الحق إلى نصابه، ويفسح في المجال للإسراع في إعادة إعمار ما تهدّم، لأنه من غير الجائز أن تستمر معاناة اللبنانيين، وخصوصا في مسألة المساكن للمتضررين، لحساب الفوضى التي تحكّمت بها جهات محلية ينبغي أن تكون محل مساءلة ومراقبة ومحاسبة على جميع المستويات.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2310 - الخميس 01 يناير 2009م الموافق 04 محرم 1430هـ