احتفلت العواصم العربية والأوروبية في العام 1998 بذكرى مرور 800 سنة على رحيل فيلسوف الأندلس القاضي ابن رشد الحفيد (أبو الوليد). وجاءت «ندوة تونس» التي عقدت بين 16 و21 فبراير/ شباط 1998 بإشراف المجمع التونسي (بيت الحكمة) ومنظمة الألكسو، الأولى في سلسلة ندوات عقدت عن ابن رشد في باريس ونابولي (إيطاليا) وقرطبة (إسبانيا) ومراكش. وتأتي الندوات عن فيلسوف الأندلس في حلقات متعاقبة ستعقد كل سنة وتتناول فلاسفة المسلمين بإشراف المنظمات الدولية والأوروبية والعربية والإسلامية.
لا يمكن استبعاد هذا الاهتمام المتأخر بالفلاسفة المسلمين ودورهم في التأثير على تطور المعارف العقلية الإنسانية عن الفضاءات السياسية السائدة في العالمين الإسلامي والأوروبي واتصال ذلك بالاضطرابات الحاصلة على أكثر من صعيد ومكان. كذلك لا يمكن عزل الاهتمام الطارئ بحرص عواصم القرار على إبراز القيم العقلية والعلمية والإنسانية التي قدمها المسلمون في تاريخهم الطويل كمادة سجال ضد مظاهر التطرف المتبادل بين بعض الاتجاهات الإسلامية وبعض نزعات العداء التاريخي للإسلام والكراهية للمسلمين التي يطلقها المتعصبون من المصطادين في مياه العنصرية البغيضة في أوروبا والولايات المتحدة في سياق أغراض لا علاقة لها بالثقافات والحضارات.
على رغم المناخ السياسي المتوتر والمستمر يتوقع المراقبون أن تفسح الندوات مساحات واسعة لإعادة قراءة التاريخ ووضع الوقائع على نقاط الحقيقة الضائعة في خضم التعصب أو العنصرية المضادة للإسلام والمسلمين. وهذا ما نجحت «ندوة تونس» في تقديمه عن «حداثة» ابن رشد، إذ شاركت فيها نخبة من المستشرقين وأساتذة الفلسفة والتاريخ من العالمين الإسلامي والغربي، فاندفعت نحو فتح صفحات كثيرة وغاصت بعيدا في التفصيلات بهدف استخراج الأدلة البرهانية التي تثبت إسلامية فيلسوف الأندلس وتؤكد أنه ليس ناقلا أو مجرد تلميذ تابع لأرسطو، بل هو أيضا الشارح الأكبر لأرسطو كما وصفه الشاعر دانتي في ملحمة «الكوميديا الإلهية» وهو «المعلم» في تفسير وتلخيص ومقارنة النصوص المترجمة ومقاربتها إلى النص الأصلي على رغم جهل ابن رشد اللغة اليونانية.
تناولت «ندوة تونس» الكثير من المواضيع وتطرقت إلى عشرات العناوين، التي صدرت مجموعة في مجلدين ضخمين. وبسبب تفرع المقالات على عشرات المحاضرات كان لابد من الاختيار وتنسيق المداخلات على رؤوس مواضيع يمكن الاستفادة منها في المعركة الفكرية الدائرة في العديد من الأمكنة والمستويات.
على أساس الاختيار تم فرز المحاضرات وترتيبها وتبويبها إلى عناوين مركزية، جاءت كالآتي:
أولا، مخطوطات ابن رشد التي ترجمت إلى العبرية واللاتينية ودورها في إطلاق الوعي الفلسفي في أوروبا.
ثانيا، تأثير أفكار ابن رشد على النهضة في أوروبا من توما الاكويني إلى ديكارت.
ثالثا، العلم الطبيعي ونظرية المعرفة في فلسفة ابن رشد.
رابعا، فلسفة القانون والتربية والأخلاق في فكر ابن رشد.
خامسا، منزلة العقل العملي في فلسفته وماذا بقي من ابن رشد في عالمنا المعاصر؟
نبدأ بالمخطوطات الرشدية بالحرف العبري ودور المترجمين اليهود في نقل ابن رشد إلى أوروبا وصلة فيلسوف الأندلس بالفقيه اليهودي ابن ميمون وتأثر الأخير به ونصيحته لتلامذته بدراسة فلسفة قاضي قرطبة وتطبيقها على العلوم الدينية اليهودية.
الأساس التاريخي للمشكلة
تذكر كتب التراجم أن ابن رشد نفي بعد محاكمته في آخر عهد أمير دولة الموحدين (المنصور) إلى قرية اليسانة وهي قرية يهودية تبعد قرابة 30 ميلا عن قرطبة. وهناك كما يبدو حصلت اتصالات بين فيلسوف الأندلس والجالية اليهودية الأمر الذي أدى لاحقا إلى نشوء «تيار رشدي» في الفقه اليهودي انتهى إلى ترجمة كتبه إلى العبرية، وتم نقلها إلى أوروبا بعد طرد اليهود إلى جنوب فرنسا إثر سقوط أمارة غرناطة المسلمة في العام 1492م (897 هجرية)، وهي آخر الإمارات في الأندلس.
يشير بعض الدراسات إلى صلته بهم قبل تلك الفترة وذلك بسبب تسامح المجتمع الإسلامي وروح التعايش السائدة في الأندلس. فالمدرسة الإسلامية آنذلك لم تكن مغلقة على طلابها المسلمين إذ كان يحق لأي مواطن أن يدرس فيها ويتعلم الفقه وعلم الأصول وغيرها من شئون فلسفية وفقهية وقضائية.
كانت المدرسة الإسلامية مفتوحة للجميع وكان المريد أو طالب العلم يحق له اختيار أساتذته وشيوخه وكان يتنقل بينهم من زاوية إلى أخرى ومن مسجد إلى آخر ويستمع ويتعلم من الأستاذ الذي يعجبه ويرتاح إليه. اعتمد النظام التعليمي الأندلسي على اختيار الطالب إذ كانت له حرية انتقاء أساتذته، وهو يختلف بطبيعته عن النظام التعليمي المعاصر إذ يجبر الطالب على التزام الصف واتباع البرنامج لا الأستاذ أو الشيخ.
كانت حصة ابن رشد من الطلبة غير المسلمين كبيرة إذ ارتاد حلقاته التدريسية الكثير من المريدين من الديانات الأخرى، وخصوصا من الجالية اليهودية بتوجيه من فيلسوف اليهود آنذاك ابن ميمون الذي ولد في الأندلس وتعلم هناك ثم انتقل إلى القاهرة في العهد الأيوبي وتحول إلى طبيب صلاح الدين وألف معظم كتبه الفلسفية باللغة العربية مستفيدا من مناهج المسلمين في الشرح والتأويل والتفسير والجمع بين العقيدة والحكمة.
نصح ابن ميمون في رسائله إلى تلاميذه بقراءة ابن رشد والتعلم منه ودراسته، وهو أمر يفسر إلمام الجالية اليهودية الأندلسية بأفكار قاضي قرطبة واتباعهم طرقه ومناهجه ومحاولة تطبيقها فقهيّا على الديانة اليهودية والنصوص التوراتية. وبرع آنذاك من تلاميذه يندود اليهودي ويوسف بن يهودا، واشتهر من المترجمين اليهود لكتب ابن رشد إلى العبرية يعقوب الانطولي من مدينة نابولي (إيطاليا)، وموسى بن تيبون من مدينة لونيل في جنوب فرنسا، وشموئيل بن تيبون، ويهودا بن سليمان كوهين من مدينة طليطلة (إسبانيا)، وأبرعهم هو ليفي بن جرشون.
إلى جانب ابن ميمون وأبن يهودا وأبن جرشون ساهم بعض المترجمين إلى اللاتينية في نقل أفكار ابن رشد إلى أوروبا وبرز منهم الاسكتلندي مايكل (ميخائيل) سكوت وكان يعمل في بلاط الإمبراطور فريدريك الثاني وباشر ترجمته وهو مقيم في بالرمو، ثم مونتيينو الطرطوشي، وأبراهام دوبالمز، وجيوفاني فرنشيسكو. كذلك تمت ترجمته من العبرية إلى اللاتينية وبرز يونتاس في الحقل المذكور.
عندما سقطت غرناطة قام الغزاة بإحراق مكتبتها إضافة إلى ما سبق وأحرقوه من مكتبات قرطبة واشبيلية. ويذكر المؤرخون أنه أحرق من مكتبة غرناطة وحدها أكثر من 80 ألف كتاب، بينما كانت تضم مكتبة قرطبة حوالي 400 ألف كتاب معظمها باللغة العربية، الأمر الذي أدى إلى خسائر جسيمة وإتلاف الأصول العربية لمئات المؤلفين المسلمين الذين لم يبق من ذكرهم سوى الاسم ونصوص مبعثرة. وحصل الأمر نفسه عندما أتلف هولاكو مكتبة بغداد بعد سقوطها على يد المغول في العام 1258م (656 هجرية) ويقدر عدد كتبها بأكثر من مليون مخطوطة.
بعد إحراق مكتبات بغداد وقرطبة واشبيلية وأخيرا غرناطة ضاع الكثير من الأصول العربية لمؤلفات ابن رشد وغيره، الأمر الذي منع انتقالها إلى العالم الإسلامي وبقيت الترجمات العبرية عن العربية أو الترجمات اللاتينية عن العربية والعبرية، ومنها أعيد لاحقا ترجمة بعضها إلى العربية.
بسبب هذه الخسارة الكبيرة نشأت مشكلة أخرى وهي وجود نصوص عربية بحروف عبرية (اللغة عربية والحرف عبري) منها مؤلفات لابن رشد قام بترجمتها أو ترتيبها بعض اليهود وهو في منفاه في قرية اليسانة. ويذكر أن ابن رشد هو الفيلسوف المسلم الوحيد الذي ترجمت أفكاره إلى لغات أجنبية وكان لايزال على قيد الحياة.
عن هذه المشكلة (مشكلة وجود نصوص عربية بحروف عبرية) قام عبدالقادر بن شهيدة بدراسة الموضوع تحت عنوان «في الإبانة عن سبب وجود مخطوطات عربية اللفظ وعبرية الحرف لابن رشد». كذلك قدم أستاذ الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الرباط أحمد شحلان بدراسة لغوية مقارنة عن المشكلة نفسها تحت عنوان «هل فهم تراجمة ابن رشد اليهود الوسطويون لغة ابن رشد؟».
وهذا ما سنعود إليه في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2310 - الخميس 01 يناير 2009م الموافق 04 محرم 1430هـ