أستذكرها بكل خشوع، وأحييها بكل محبةٍ وتقدير، في يوم المعلم العالمي.
لم أكن من طلاب المدارس الخاصة، ولم تكن هي من خريجات الجامعات. كنت في العاشرة، وربما كانت حينها قد تجاوزت الخمسين. ومع ذلك ظلت تربطني بها (رحمها الله) علاقةٌ خاصةٌ، بدليل أنه لم تحضرني في هذه المناسبة شخصيةٌ أخرى أكثر جلالا وهيبة رغم المرور بمئات المعلمين.
لم تكن «المدرسة» بناء واسعا من صفوف دراسية وغرف إدارية وممرات مرصوفة بالبلاط وساحة ألعاب، وإنّما كان فناء منزل قديم مترب، يتوسط عددا من الحجرات المبنية من الطين. في تلك المدرسة تعلمت أعظم ما يمكن أن يتعلّمه الإنسان: كتابٌ أحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير.
رغم الدخول المبكّر بالمدرسة، إلا أن الأسرة أصرّت على إلحاقي بحلقة تدريس القرآن، كما كانت تفعل أغلب الأسر حتى منتصف السبعينيات. كانت مثل هذه الحلقة من بقايا نظام التعليم الديني القديم الذي يؤذِن بانقضاء.
لم تكن بحاجةٍ إلى ركوب باصٍٍ لتصل إلى المدرسة، فما عليك إلا أن تخرج من بيتك لتدخل البيت المجاور، وهناك تلتقي مجموعة مختلطة من البنات والأولاد، أغلبهم في سن الصبا. وهناك عدة بيوتٍ من حولنا تقوم ربّاتها بتعليم مجموعات أخرى القرآن الكريم.
كان التحاقي بالمجموعة الدراسية صيفا، وكان الجوّ حارا، ولم تكن البحرين قد عرفت بعدُ انتشار المكيّفات. وعليك الذهاب إلى الدرس بعد الظهر، فتقرأ الجزء الذي تحدّده لك المعلّمة كل يوم. وهي تتابعك وتتابع عشرة من زملائك وزميلاتك في الوقت نفسه، وتصحّح ما يقعون فيه من أخطاء.
لم يطل بي المقام بالمدرسة، فلم تمضِ سوى أشهرٍ معدودات حتى ختمتُ القرآن، لتقدّمي في الدراسة النظامية وتمكّني من القراءة بشكل جيد. الصعوبة الوحيدة التي كنت أواجهها في القراءة هي مطالع بعض السور التي تبدأ بالحروف المقطعة مثل «ألم»، «ألر» أو «كهيعص»، مما لم يكن مألوفا في دروس اللغة العربية بالمرحلة الابتدائية آنذاك.
مقابل تعليم القرآن، كانت العوائل تقدّم مبلغا رمزيا أو شيئا عينيا للمعلّمة نهاية كلّ أسبوع. بقايا صورٍ من بقايا نظام تعليمي قديم كان يعيش آخر أيامه، في مجتمعٍ محافظٍ بسيطٍ وفقير، تتذكّره في يوم المعلّم العالمي، وترسل إلى معلمتك الأولى في قبرها كلّ آيات الشكر والامتنان والتقدير.
في مساء اليوم نفسه، وفي صدفةٍ جميلةٍ، كانت تزورنا قبل ليلتين معلّمةٌ أخرى من تلك المدارس وذلك الجيل، سألتها عن عدد طلابها فأجابت أن عندها خمسة أطفال، وأخذت تستذكر تلك الأيام التي قد خلت، وانطوت بما فيها من بساطةٍ وألفةٍ وصدقٍ وصفاءٍ واختلاط بريء.
اليوم... يملّ طلابها الجدد سريعا، فلا يقرأون أكثر من صفحةٍ واحدة، تسوقهم الرغبة للعودة إلى منازلهم لمشاهدة الرسوم المتحركة، أو برامج الفضائيات المخصصة للأطفال، أو الاستمتاع بألعاب «البلاي ستيشن». وفي هذا العصر الملوّث الموبوء، لا يأمن ربّ الأسرة على أطفاله وهم يمشون في الطريق.
في يومهم العالمي، أحيّي من خلال معلمتي الراحلة العجوز، كلّ من مرّوا بحياتنا من معلمات ومعلمين، والجيل الجديد الذي يتحمّل أداء المهمات المقدسة في مجال التربية والتعليم.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2587 - الإثنين 05 أكتوبر 2009م الموافق 16 شوال 1430هـ
الاخ قاسم حسين
تشكر يا خوي على هذا المقال اللي أعاد إلينا الذكريات الجميلة أيام زمان كان أمان وكان الحب والصفاء بين الناس ، وأما هذا الزمن تخاف على أبنائك حتى من الوقوف على باب البيت! آه من آخر الزمان.
تحية إلى كل معلم مخلص
"وترسل إلى معلمتك الأولى في قبرها كلّ آيات الشكر والامتنان والتقدير" ما أجمل أن يتذكر الإنسان أصحاب الفضل وهم تحت الثرى، رحمهم الله، وأطال في أعمار الأحياء ممن ندين لهم بالفضل في ما نحن فيه ...
يوزرسيف الحكيم
لم لا يتم تخصيص حصص خاصة بالقرآن الكريم ، قراءة وتجويد وحفظ ، بمعنى أن يكون لها درجة مستلقة ترصد في الشهادة .. ؟