تحوّلت الأزمة المالية العالمية إلى ما يشبه الطوفان الفالت الذي لم يعد بالإمكان السيطرة عليه، فراح يوجه ضرباته في كل اتجاه، فمن التقتير في موازنات مواجهة الكوارث الطبيعية، إلى ترويج تجارة المخدرات، كي يوصلنا معه اليوم إلى محطة إنعاش الإتجار بالبشر، وخاصة النساء والأطفال، وعلى وجه التحديد في الدول الفقيرة حيث تقف الحكومات في بعض الأحيان عاجزة عن اتخاذ الإجراءات الضرورية لمكافحة هذه الظاهرة غير الإنسانية.
فقد ورد في تقرير أصدرته مؤخرا منظمة «أوقفوا عمل الأطفال في الجنس والإصدارات الإباحية والإتجار في الأطفال لأغراض جنسية» - المعروفة اختصارا باسم «إكبات» (ECPAT)، ما يشير إلى أنه «من شأن الركود الاقتصادي الأخير أن يعرض المزيد من الأطفال واليافعين المستضعفين للاستغلال في التجارة في مجال الجنس... (ويدعو التقرير علانية إلى ضرورة التصدي لوقف) حالة اللامبالاة تجاه جريمة وجشع وشذوذ البالغين في طلب ممارسة الجنس مع الأطفال واليافعين». يؤكد ذلك أيضا تقريران آخران أصدرتهما منظمة العمل الدولية. يقول الأول: «إن سياحة الجنس تشكل ما بين 2 و14 في المئة من الناتج القومي الإجمالي في إندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند». أما الثاني فيربط بين الأزمة المالية العالمية وهذه التجارة غير الإنسانية فيكشف أن «ظاهرة الاتجار بالبشر العالمية، تدر أرباحا تصل إلى 36 مليار دولار، وتحرم فئات العمال الكادحين من عائدات قد تصل في مجملها إلى أكثر من 20 مليار دولار، وأن الضعفاء هم أكثر المتضررين من الأزمات الاقتصادية، كالتي يشهدها الاقتصاد العالمي حاليا». تقرير ثالث صادر عن منظمة «اليونيسيف» يحذر من أن «نحو 1.8 مليون طفل (معظمهم من الفتيات) يدخلون سنويا في تجارة الجنس المدرة للملايين، وأن ما بين 30 و35 في المئة من كل العاملين في تجارة الجنس في منطقة الميكونغ بجنوب شرق آسيا تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاما».
ويكشف موقع «الأوان» عن حالات كثيرة منتشرة في أنحاء كثيرة من العالم، وعلى وجه الخصوص تلك التي تدور فوق أراضيها حروب داخلية مثل العراق، ثم يورد الموقع أرقاما استقاها من تقارير دولية تقول إن هناك ما يربو على «27 مليون إنسان، 80 في المئة منهم من النساء والأطفال يعيشون في ظلّ العبودية الحديثة أو ما يعرف بتجارة البشر، تقدر أرباح استغلال النساء والأطفال جنسيا بـ 28 مليار دولار سنويا، كما تقدر أرباح العمالة الإجبارية بـ 32 مليار دولار سنويا، وأن 98 في المئة من ضحايا الاستغلال التجاري الإجباري للجنس هم من النساء والأطفال. ويتعرض نحو 3 ملايين إنسان في العالم للإتجار بهم، بينهم 1.2 مليون طفل. ويتمّ الإتجار بطفلين على الأقل في الدقيقة للاستغلال الجنسي أو العبودية».
وهذا ليس بالأمر الغريب؛ فقد كشفت دراسة أعدتها إليزابيث ريهن Elizabeth Rehn وإيلين جونسون سيرلاف Ellen Johnson Sirelaf، وصدرت في العام 2002 عن صندوق تنمية المرأة التابع للأمم المتحدة بعنوان «المرأة والحرب والسلام: تقييم الخبراء المستقلين لتأثير الصراعات المسلحة في المرأة ودور المرأة في بناء السلام»، عن «ضلوع أفراد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في ارتكاب انتهاكات وجرائم جنسية تشمل الإتجار بالبشر في أنغولا والبوسنة والهرسك وكمبوديا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتيمور الشرقية وكوسوفو وليبيريا وموزمبيق وسيراليون والصومال».
وفي مايو/ أيار من العام نفسه بثت محطة «فوكس نيوز» التلفزيونية شريطا إخباريا كشفت فيه عن توفير «القوات الأميركية في كوريا الجنوبية دوريات مجانية لحماية مواخير الدعارة التي تستغل النساء اللائي تم جلبهن للإتجار بهن في الدعارة الجنسية».
ولعل هذه الحالات هي التي دفعت القبطان كيث أولريد من حلف الناتو إلى دعوة الحلف كي يطبق عمليا محاربة الإتجار، تنفيذا لقرارات قمة اسطنبول لحلف الناتو في العام 2004، والتي اعتبرت «الإتجار بالبشر جريمة تستحق الإدانة العالمية، وتجارة رقّ في هذا العصر وأنها تغذي الفساد وتساعد على انتشار الجريمة المنظمة»، وتجلب معها احتمالات زعزعة استقرار الحكومات الضعيفة».
ورغم بشاعة الإتجار بالبشر بشكل عام، فإن أسوأ أشكالها ذلك الذي يتمحور حول استغلال الأطفال، حيث ازدهرت في الآونة الأخيرة، وخصوصا مع اشتداد الأزمة المالية العالمية ما أصبح يعرف بسياحة الأطفال، التي حظت باهتمام المنظمات الدولية منذ ما يزيد على 15 عاما، حيث عقد في العام 1996 في مدينة استوكهولم المؤتمر العالمي الخاص بمكافحة الاستعلال الجنسي التجاري، وخصوصا في أوساط الأطفال القصّر من الجنسين.
وفي مارس/ آذار 2009 أطلقت الأمم المتحدة حملة جديدة، كان شعارها «قلب أزرق»، كان القصد من ورائها «التوعية بمحنة ملايين الأشخاص حول العالم ضحايا الإتجار بالبشر وتعبئة الرأي العام لمكافحة هذا الشكل من أشكال العبودية المعاصرة».
ولا يقتصر الأمر على الدول الفقيرة، هذا ما كشفه تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأميركية الذي وردت فيه أسماء بعض الدول الخليجية، من بينها مملكة البحرين، التي بادرت إلى عقد مؤتمر خاص رعته قرينة الملك من أجل الحد من هذه الظاهرة، وقد سبق ذلك المؤتمر تصديق الملك على قانون يُجرّم الإتجار بالبشر، وذلك بعد أن أقر البرلمان البحريني، بمجلسيه النواب والشورى، القانون بعد مداولات طويلة. ونص القانون على عقوبة السجن وبالغرامة التي لا تقل عن ألفي دينار بحريني ولا تتجاوز عشرة آلاف دينار لكل من ارتكب جريمة الإتجار بالأشخاص.
وفي السياق ذاته، وعلى المستوى الخليجي أيضا، بادرت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى رصد مبلغ 15 مليون دولار لمكافحة الإتجار بالبشر، وذلك في إطار خطة وطنية متكاملة تشمتل على أربعة محاور وهي: التشريع والتنفيذ ومساندة الضحايا مع الاستعانة بخبرات الدول في بناء قدراتها الوطنية في هذا المجال.
ورغم أهمية بل وضرورة عقد المؤتمرات، وإقامة ورش العمل، وسَنّ القوانين، ورصد الموازنات... لكن الأهم من ذلك كله ضمان التصدي العملي لهذه الجريمة، ووضع صمامات الأمان التي تغلق الأبواب أمام المستفيدين من ورائها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2587 - الإثنين 05 أكتوبر 2009م الموافق 16 شوال 1430هـ