العدد 2584 - الجمعة 02 أكتوبر 2009م الموافق 13 شوال 1430هـ

تَحَدّث لِكَي أفْهَم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تحمّل مقالي اليوم قليلا. ماذا لو سمعتَ ما سمِعَه مصاد بن مذعور القيني من إحدى الفتيات وهي تدنو منه، تُقلّب الحصى وتخطّ بها الأرض طارقة وهي تقول: «مُضَلُّ أَذوادٍ عَلاكِد، كُوم صَلاخِد، مِنهنّ ثلاثٌ مَقَاحِد، وأربعٌ جَدَائد، شُسُفٌ صَمَارِد»!

أو سمعتَ امرأة أخرى تقول بأشدّ من سابقتها: ليهبط الغائط الأفْيَح، ثم ليظهَرَ في المَلاَ الصَّحِيْح، بين سَدِيْرٍ وأمْلَح، فهناك الذَّوْدُ رِتَاعٌ بمُنْعَرَج الأجْرَع. (راجع الجزء الأول من الأمالي ص 143).

هنا أسرِد ذلك لكي أقِف على مشكلة لطالما عانى منها الخطاب السياسي. هو بالتأكيد ليس كما ذكرتُ من سبكٍ لنصوص النّثر العربية؛ لكنه شبيه لها من حيث شدّة الغموض واتّساع مجال التأويل فيه، وضياع التوجيه حتى ليُسْتَلّ منه الحلال والحرام في آن.

في معايشة مباشرة للخطاب ومكوّناته (المُرسِل - الرسالة - المتلقّي) تظهر ثلاث مُشكلات رئيسية.

الأولى: الغموض.

الثانية: إمكانية التأويل المُشبَع.

الثالثة (وهي الأهم في التركيز) ضياع التوجيه والنقد من قمّة الهرم تجاه القاع، وبالتالي حدوث اضطراب في السلوك.

ففي مجتمع مقسوم ما بين مُوجِّهِين/ مُوَجَّهُون ومُنوِّمِين/ مُنَوَّمُون حسب توصيف سيبيو سيغل تظهر مشكلة «غياب تربية الخطاب» رغم وجود مُحفّزات في أن يكون الخطاب السياسي صاحب رؤية، وضبط لحركة الأفراد والجماعات، مُتذكّرين في ذلك نظرية سيكولوجيا الحُشُود التي بها تُسلِّم الجماهير لقادتها الدينيين والسياسيين.

المشكلة تكمن في أن ما بين صدور الرسالة وحتّى وصولها للمتلقّي يتشكّل نظام خاص للمصالح. فالقيادات السياسية تُصِرّ في أن يبقى الجمهور مُسيطَرٌ عليه من قِبَلها لممارسة نوع من السيادة (من خلاله) على بقية القوى المجتمعية الأخرى، وأيضا لتكوين وسيلة ضغط ضد السلطة.

وبالتالي لا تستطيع تلك القيادات السياسية أن تقول ما يُعكّر الصفو الذهني للجماهير لكي لا يرتدّ عليها لاحقا، ويُسبّب نفورا من الأطراف عن المركز ونواة القيادة، وهو ما يدفع (ويُشجّع) لأن تُصبح هناك علاقة سطوة تبادلية بين الطرفين.

هذه السطوة تتشكّل من خلال وضع الجماهير قدرتها العددية الفوّارة لصالح مشروعات القيادات السياسية، في سبيل التزام تلك القيادات بما تفرضه حالة الاستعداد النفسي والعصبي للجماهير والمتأتّية من الاستجابات الفردية والجماعية للأحداث. وهنا يُصبح التقابل بين الرأي والاتجاه في أكثر تجلياته خطورة.

لقد تسبّب ذلك في إيجاد سلطة مُركّبة ضاعت بين حوافرها بوصلة الخيارات الصحيحة للعمل السياسي.

كثيرة هي القيادات التي لم تعد قادرة عن نقد سلوكيات الجماهير فضلا عن تقريعهم وذلك خوفاَ من انحسار مخزونها العددي، وبالتالي ضياع ورقة الجمهور.

صحيح أن للقواعد حقوقا وآراء ضمن توليفة العمل السياسي العام لكن تلك الآراء هي تتشكّل أصلا من قدرات فردية آحادية لا يجمعها في النهاية مسار تنظيمي وأطر، وبالتالي فهي تتزاحم لتنتج رؤية هلامية غير واضحة تتطلع دائما لمن يُساعد على ضبطها.

في التاريخ نقرأ أن علي بن أبي طالب (ع) كان ناقدا لأنصاره وجمهوره.

كان يُمارس ذلك وهو في أمسّ الحاجة لمخزون بشري يستعين به في حروب ومعارك في اتجاهات مختلفة. مع ذلك حديثه موجّه ومباشر ولا يحتمل التأويل.

كان يصِف قومه «... كلامكم يُوهِي الصُّمُّ الصِّلابَ. وفِعلُكُم يُطمِعُ فيكمُ الأعداء، ما عزَّت دعوةٌ من دعاكم ولا استراح قلبُ من قاساكم، أعاليل بأضاليل. دفاعَ ذي الدَّين المطول لا يمنعُ الضَّيم الذّليلُ، ولا يُدرَكَ الحقُّ إلا بالجِدِّ، أيِّ دارٍ بعدَ دارِكُم تمنعون. ومع أيِّ إمامٍ بعدي تُقاتلون، المغرور والله من غررتُمُوه، ومن فاز بِكُم فقد فاز والله بالسَّهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوَقَ ناصل».

إن إمساك العصا من الوسط لا يُجدي في جميع الأحوال. ولا ترك الناس تقود ساستها بأمر جيد، وإلاّ انتفى أصل وجود القيادة وجمهورها التي يقبلها المنطق والعقل. فالاستغراق في خطاب لا يُعرف له نهاية ولا وجهة ولا قصد، ويُرمَى بغرض الإشباع النفسي دون توجيه لهو المُصاب بعينه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2584 - الجمعة 02 أكتوبر 2009م الموافق 13 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 3:05 م

      تيارا المعارضة

      لطالما طلب منك منتقديك الكف عن الشؤون الايرانية والاعتناء قليلاً بالشؤون الداخلية, اعتقد انك حتى لو لم تصوب مقالك بالإسم, الاانك اجدت سبك لوحةٍ تعبر عن شأننا الداخلي, وبالخصوص المعارضة وتياريها الرئيسيان المتناكفان.
      واصل في انقاء مواضيعك الرائعة كما ترى فأنا من المتابعين لمقالاتك منذ فترة

    • زائر 4 | 1:32 م

      هذا هو حال المعارضات

      أجدت الوصف يااستاذ
      جميع المعارضات في عالمنا تخشى من خسارة الشارع في حين ان ذلك ليس هو الهدف بقدر ما هي المطالب والحقوق

    • زائر 1 | 12:21 ص

      هكذا نتعلم منك

      إن الكاتب سبك مسبوكات معقدة على القارئ؛ لكمنها جاءت ممتازة في الربط بالمقصد، غير أن التعمية تبدو واضحة، فليتك أبنت ولو بإشارات، لكنك تخاطب عناصر تعنيها، ونحن نستفيد من هذا الخطاب الراقي ومنك وأمثالك الجادين نتعلم..
      د.عبدالأمير زهير،،

اقرأ ايضاً