العدد 2583 - الخميس 01 أكتوبر 2009م الموافق 12 شوال 1430هـ

طلائع عصر الأنوار في الأندلس

محنة ابن رشد بين السياسة والفلسفة (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل رحيل ابن تومرت (المهدي) بسنتين ولد ابن رشد في قرطبة في العام 520هـ (1126م) من أسرة عريقة في العلم. فجده (أبوالوليد بن رشد) كان قاضي القضاة في الأندلس وأمير الصلاة في المسجد الجامع في قرطبة، وهو من أئمة المذهب المالكي وله فتاوى مخطوطة لاتزال موجودة في مكتبة باريس. ووالده (أبوالقاسم أحمد) كان قاضي قرطبة (راجع كتاب عبدالرحمن مرحبا عن تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 720). فأسرة ابن رشد كانت من أعرق الأسر الأندلسية وأبعدها شأوا في الفقه والقضاء (راجع كتاب ماجد فخري ص371).وكانت ثقافته متنوعة تجمع اللغة والفقه والكلام. ودرس منذ صغره اللغة والأدب والفقه والأصول وعلم الكلام وروى الحديث عن والده. ودرس الشريعة على الطريقة الأشعرية وأتقن علم الكلام، ودرس الفقه على مذهب الإمام مالك (صاحب كتاب الموطأ) وأفتى على المذهب المالكي بطريقة علم الكلام الأشعرية، ودرس أيضا الطب والرياضيات والحكمة (راجع مقدمة البيرنصري نادر عن مؤلفات ابن رشد، ص4-15). آنذاك كانت الأشعرية منتشرة في شريحة صغيرة من فقهاء وعلماء وأئمة المذهب المالكي وجرت محاولات للجمع بين المذهبين الشافعي والمالكي على طريقة المتكلمة الأشعرية. إلى الأشعرية، كان المذهب الظاهري حاضرا في الأندلس بعد انتشاره عن طريق دعاة أبرزهم ابن حزم (توفي في العام 456 هجرية/ 1064م) وغيره من علماء الظاهرية.

عاصر جد ابن رشد ووالده دولة الملثمين (المرابطين) وكانت أسرته من العائلات المعتبرة التي اعتمد عليها الولاة والأمراء في شئون الفتيا والقضاء، خصوصا في إمارة قرطبة. بينما برز في إمارة إشبيلية القاضي المالكي أبي بكر بن العربي (وهو غير ابن عربي الصوفي صاحب كتاب الفتوحات المكية). كان القاضي ابن العربي من أشهر علماء عصره في الأندلس، ويعدد ابن كثير في تاريخه صفاته في الفقه والعلم والزهد والتعبد و «سمع الحديث بعد اشتغاله في الفقه، وصحب الغزالي وأخذ عنه» (المجلد 11/12، صفحة 247).

عُرف عن ابن العربي أنه أحد تلامذة الإمام الغزالي وتأثر بطريقته الأشعرية على مذهب الإمام الشافعي وحاول الجمع بين الفقه المالكي وطريقة الغزالي الأشعرية. إلا أنه وبحكم وجوده في الأندلس ابتعد عن أستاذه الغزالي نظرا إلى تأثره بأجواء سيادة المذهب المالكي وحضور الطريقة الظاهرية التي ترفض الأخذ بالتأويل، فقرر أخذ مسافة عن طريقة المتكلمة واتجه إلى شرح الترمذي وأخيرا قام باتهام أستاذه الإمام الغزالي بالأخذ برأي الفلاسفة ويُنقل عنه أنه قال عن أستاذه «دخل في أجوافهم فلم يخرج منها» (ابن كثير، المصدر نفسه).

يذكر أن الإمام الغزالي اتبع منهج التفكيك في سجاله ضد الفلاسفة واستخدم طريقتهم لهدم منظومتهم الفكرية من الداخل، وهو أسلوب عابه عليه بعد 200 سنة شيخ الإسلام ابن تيمية. وكان الإمام ابن تيمية اتبع منهج الهدم في سجاله ضد الفلاسفة وأيضا ضدمنظومات الأئمة والفقهاء فخرالدين الرازي (ابن الخطيب) والغزالي والأشعري، وأطلق تلميذ ابن تيمية الإمام ابن قيم الجوزية على منهج أستاذه «المنهج الهدمي» أي هدم أفكار الخصم من الخارج من دون ضرورة للدخول إلى حقلهم وذلك لتمييزه عن منهج الغزالي وهو «المنهج التفكيكي» الذي دفعه إلى دخول منطق الفلاسفة وتقويضه من الداخل.

يتفق ابن تيمية مع الغزالي على مبدأ التقويض ويختلف معه على المنهج. فالغزالي اتبع منهج التفكيك من الداخل بينما ابن تيمية اتبع منهج الهدم (التقويض) من الخارج، وانتقده لأنه لجأ إلى التفكيك بدلا من الهدم. واستخدم ابن تيمية رأي القاضي ابن العربي في أستاذه (دخل في أجوافهم فلم يخرج منها) قاعدة انطلاق للسجال ضد المتكلمة من الأشاعرة (الباقلاني، الجويني، والغزالي) وغيرهم من المشتغلين في الفلسفة والمنطق.

في هذا الجوّ من الاصطراع المذهبي والكلامي والسياسي عاش ابن رشد طفولته وتلقى علومه وشبّ في لحظة انتقالية تاريخية أخذت فيها دولة المرابطين تذبل وتتلاشى مقابل نشوء دولة الموحدين وصعودها.


أسرة ابن رشد

عُرف عن أسرة ابن رشد اشتغالها في الحقلين الفكري والسياسي، ولعبت دورا محدودا في عهد أمراء الطوائف وقوي شأنها في الدولتين المرابطية والموحدية. وبسبب شهرة الأسرة بحث المؤرخون والنسابة في أصلها فتبيّن أنها من الأسر المتعربة وليست عربية أو بربرية الأصل. فاستغل المسألة بعض المستشرقين للإشارة إلى وجود أصول يهودية لابن رشد الحفيد (فيلسوف قرطبة) حين تم نفيه إلى قرية اليسانة اليهودية، وهو أمر غير دقيق.

كل ما يعرف عن أسرة ابن رشد أنها انتقلت من سرقسطة (شمال الأندلس) إلى قرطبة (الجنوب). وبسبب غموض الأصل القبلي (الهوية) وعدم انتساب الأسرة إلى أي قبيلة عربية في زمن كان يحرص فيه العلماء والفقهاء والقضاة على إظهار نسبهم بالإشارة إلى أصلهم العربي (قيسي، تميمي، أسدي، غساني، مضري، يمني، إيادي، أنصاري، تغلبي، قرشي، عدناني... إلخ) اضطر علماء النسب إلى التركيز على أعقاب ابن رشد الخمسة والبدء من الجد الأعلى وصولا إلى أولاد ابن رشد الحفيد في عهد الناصر الموحدي.


الجد

يبدأ النسب من الجد الأكبر (أحمد بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن رشد)، ولا يعرف تاريخ مولده ولم يُذكر تاريخ وفاته ويرجح أنه توفي بعد سنة 482 هجرية (1089م).

ابن رشد الجد (أبوالوليد) هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله. ويعتبر المؤسس الحقيقي للأسرة التي اشتهرت بالعلم والفقه والطب والفلسفة. ولد الجد سنة 450 هجرية (1058م) في قرطبة، ولم يترك الأندلس، لكنه سمع من الشيوخ الذين رحلوا إلى المشرق، اجتمع لديه الفقه والرأي وعُرف بشدة تمسكه برأي أهل السنة. فهو فقيه مالكي درس الطريقة الأشعرية - الكلامية ودافع عن مناهج الأشاعرة (الباقلاني، ابن فورك، الاسفراييني، والجويني، والباجي) وسماهم «أئمة خير وهدى ممن يجب بهم الاقتداء لأنهم قاموا بنصر الشريعة وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة، وأوضحوا المشكلات...» (ص 205). وحين أفتى أستاذه القاضي ابن حمدين بحرق كتاب الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين) لم يشترك بحملة التحريض التي شجع عليها بعض العلماء والفقهاء والقضاة من المذهب المالكي.

اختار ابن رشد الجد اعتزال الفتنة حين انقسمت الأندلس على الفتوى فوقف مثلا علماء المرية كالبرجي (توفي 509 هجرية) وابن الفصيح (توفي 507 هجرية) وابن ورد (توفي 540 هجرية) ضد فتوى الحرق، إلا أن أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين أيّد الفتوى وأمر بحرق كتاب الإحياء على الباب الغربي في جامع قرطبة سنة 503 هجرية (1109م) واستمر الحرق في معظم المدن إلى سنة 508 هجرية (توفي الإمام الغزالي سنة 505 هجرية).

تولى ابن رشد الجد قضاء القضاة في قرطبة سنة 511 هجرية (وعمره 61 سنة) واستمر في منصبه أربع سنوات إلى أن حصلت هبّة شعبية في قرطبة ضد المرابطين ونهبت مراكزهم ودورهم سنة 515 هجرية (1121م) في عهد أميرهم علي بن يوسف، فأرسل الأمير من مراكش قوة عسكرية مؤلفة من صنهاجة وزناته والمصامدة إلى الأندلس وحاصرت قرطبة محاولة اقتحامها. وحقنا للدماء سعى الفقهاء والعلماء والقضاة للمصالحة وكلفوا قاضي المدينة ابن رشد الجد بالمهمة فتوجه إلى القوات المرابطة حول قرطبة ودافع عن موقف أهل المدينة وطالب بالصفح عنهم، وانتهت المفاوضات بالاتفاق على تعويض ما نُهب للمرابطين والعفو عن أهل المدينة.

بعد نجاح ابن رشد الجد في مهمة المفاوضة استقال من منصبه بعد هدوء الهبة للتفرغ للتأليف والكتابة فوافق الأمير على طلبه. واضطر ابن رشد الجد إلى السفر إلى مراكش في سنة 519 هجرية (1125م) بعد أن ازدادت مخاطر الفرنجة على الأندلس ورفع شكواه إلى الأمير المرابطي ضد المعاهدين واتصالهم بملك اراغون بن رذمير وتعاونهم معه ضد ثغور المسلمين. واقترح عليه إجلاء المعاهدين من الأندلس وطالبه بعزل أمير جيش المرابطين أبي الطاهر تميم وتعيين من هو أحزم وأقدر منه، ففعل وعزله وأمر بإجلاء المعاهدين من مناطق المسلمين في الأندلس.

آنذاك اشتدت حركة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي (الموحدون) في بلاد المغرب فاقترح عليه ابن رشد الجد في سنة 520 هجرية بناء سور حول مراكش (بناها والد علي يوسف بن تاشفين سنة 462 هجرية) لحماية المدينة من الهجمات ففعل الأمير علي بن يوسف، واستغرق تشييد السور ثمانية أشهر وبكلفة 70 ألف دينار من الذهب. وتوفي ابن رشد الجد بعد عودته إلى قرطبة سنة 520 هجرية (1126م) ودُفن هناك. وتصادف رحيله مع مولد حفيده (ابن رشد) في السنة نفسها وقبل شهور من وفاته.


الأب

ابن رشد (الوالد). وُلد أحمد بن أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن رشد في قرطبة سنة 487 هجرية (1094م)، وتربى في بيت والده ولم يغادر الأندلس ونال علومه من شيوخ قرطبة وعلماء وفقهاء الأندلس الوافدين إلى المدينة. تقرب والد ابن رشد من المرابطين وتولى قضاء قرطبة في سنة 532 هجرية (1137م) ثم أعفي من منصبه بسبب ليونته في التعامل مع حوادث شغب حصلت في المدينة في وقت بدأت دولة المرابطين تتراجع لمصلحة نمو شوكة حركة الموحدين في المغرب.

وحين انقرضت دولة المرابطين سنة 542 هجرية (1147م) كان ابن رشد الحفيد في فترة شبابه يدرس ويتعلم على شيوخ قرطبة والأندلس بإشراف والده وعناية ابن بشكوال. وتوفي والد ابن رشد في سنة 563 هجرية (1167م) ودُفن في قرطبة في وقت اتصل ابنه ابن رشد (الحفيد) بالدولة الجديدة (الموحدون) وكلفه أميرها بتولي قضاء إشبيلية ثم نقله إلى قرطبة وتولى منصب قاضي القضاة في سنة 566هـ (1170م) وهو الموقع الذي سبق وأخذه والده وجده.

تم تكليف ابن رشد بعد عودة أمير الموحدين عبدالمؤمن من غزواته في شمال إفريقيا سنة 547 هجرية (1152م)، وتصادف مع اتساع رقعة دولة الموحدين وتوافد القادة لمبايعة عبدالمؤمن إذ توجه إليه «كبراء العرب من أهل إفريقية طائعين فوصلهم ورجعّهم إلى قومهم» (ابن خلدون، ص279).

كان ابن رشد شابا بلغ الـ 27 سنة من عمره، وكانت شهرته آنذاك كطبيب من الأطباء، ومن تلامذة أبي جعفر هارون الذي أخذ عنه الطب. وجعله اتصاله بأبناء زهر (من مشاهير زُهر) محط إعجاب وتقدير خصوصا عندما برع في الطب وكتب في حقوله، فابن زهر كان من أعلام الطب في زمانه.

إلى اتصاله بالطيب ابن زهر اتصل ابن رشد بالفيلسوف ابن طفيل، وهو ثاني ثلاثة ظهروا في القرن السادس الهجري في حقل الفلسفة بعد ابن باجه وقبل ابن رشد. ولعب ابن طفيل دوره في التأثير على قاضي قرطبة وكان له الفضل في تقديمه وتعريفه على أبن أمير الموحدين عبدالمؤمن الذي سيخلف والده لاحقا، وسيكلفه بتنظيم شئون الإمارة و يعتبر ابن طفيل أبرز أساتذة ابن رشد في الفلسفة، إضافة إلى أساتذته كوالده القاضي، وابن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي جعفر بن هارون، وابن زهر.

بعد التكليف انطلق الشاب الطبيب ينفذ المهمة بالتعاون مع علماء عصره ورجال زمانه من مهندسين وأطباء وقضاة وفقهاء لتنظيم إدارات دولة الموحدين ونشر مدارسها.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2583 - الخميس 01 أكتوبر 2009م الموافق 12 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً