يبدأ اليوم «لقاء جنيف» جلسته الأولى بين إيران والدول الست للبحث في موضوع «الملف النووي» وتفرعاته المثيرة للجدل. واللقاء الذي يعتبر الأول علنيا في عهد الرئيس باراك أوباما يرجح أن يتابع في إطارات حوارية تتجاوز تلك الاتصالات «الفنية» و«التقنية» التي حصلت خلف الستار في عهد الرئيس جورج بوش.
الجلسة العلنية الأولى تعتبر حقل اختبار للنوايا ومدى استعداد طهران للتفاوض بشأن مشروع التخصيب مقابل تلك الإغراءات والحوافز التي تعتزم أميركا ودول أوروبا تقديمها. فهل إيران جاهزة للتراجع أو المساومة على برنامجها النووي حتى تضع الدول الست في موقع الطرف القادر على المفاضلة بين خيارين؟
طهران قبل أن يتوجه وفدها إلى جنيف استعرضت قوتها، فهي أعلنت وجود مشروع «مفاعل سري» بالقرب من «قم» وقامت بمناورات صاروخية اختبرت فيها منظومات بعيدة وقريبة المدى. ودول الغرب شنت قبل أيام من اللقاء هجمات إعلامية حاولت فيها اظهار قوة إيران ومخاطرها وبالغت أحيانا في تضخيم قدراتها العسكرية للتخويف والتهويل بقصد شد الانتباه وتحقيق مكاسب معنوية تسمح لها بالضغط النفسي خلال المباحثات.
الطرفان استعرضا عينات من القوة قبل التوجه إلى جنيف. وهذه مسألة متعارف عليها في مجال التفاوض عبر الرسائل الإعلامية والفضائية. فالأطراف عادة تبالغ بقوتها حتى تُحسّن شروطها وتقلل من تنازلاتها في المباحثات. كذلك تعمد الأطراف إلى تضخيم قوة الخصم والمبالغة في مخاطره حتى تتوافر تلك الذرائع الخفية للضغط النفسي سواء بالتهويل والتهديد بالعودة إلى الخيار العسكري أو الابتزاز من خلال إشهار لائحة قاسية بالعقوبات.
كل ما حصل في الأسبوعين الماضيين على الجبهتين الإيرانية والغربية مجرد مناورات إعلامية (قنابل دخانية) تمهد الطريق للجلوس إلى طاولة لا يعرف شكلها (ثنائية أو سباعية) ولكنها ربما تشكل بداية لتفاهمات جرى تأسيس قواعدها في لقاءات الكواليس في عهد بوش.
التفاهمات ليست بالضرورة نهائية. فهي تحتاج إلى تشذيب وتهذيب قبل الإعلان عنها في صيغتها النهائية لأن بعض جوانبها تتجاوز حدود إيران وحقوقها السيادية وتتصل مباشرة بحدود دول الجوار وحقوقها السيادية أيضا.
هنا بالضبط تبدأ الإشكالية القانونية. فإيران لها حقوق مثلها مثل دول العالم. والقانون الدولي يحترم السيادة ولا يقدسها حتى تبدأ دولة ما بتجاوز حدودها ولا تحترم سيادة الدول المجاورة أو البعيدة. كذلك القانون الدولي يعطي الحق لكل دول العالم أن تمارس سلطتها السيادية في إنتاج الطاقة السلمية والتخصيب وإنتاج الصواريخ على أشكالها وانواعها ولكنه يتدخل حين يتحول الحق السيادي المشروع إلى خطة توتير تتجاوز الحدود إلى المحيط الجغرافي والإقليمي.
هذا الخط الفاصل بين حق السيادة للدولة وحقوق الدول الأخرى والضمانات المطلوبة لاحترام سيادتها يرجح أن يكون نقطة مركزية للتفاوض. والتفاوض عادة لا يكون على السيادة والحقوق وإنما على المجال الحيوي لفائض القوة.
الخلط بين الحق (السيادة) ومجال فائض القوة يشكل دائما نقطة توتر تزعزع الاستقرار وتثير المخاوف وتدفع الدول إلى التدخل لمنع التجاوزات الإقليمية التي تهدد المصالح المشتركة. واحتمال الخلط بين الحق (القانون الدولي) ومنطق القوة مسألة غير مستبعدة في «لقاء جنيف» بين إيران والدول الست.
طهران في الجانب السيادي من مسألة التخصيب ومنظومة الصواريخ وغيرها من نقاط تمتلك الكثير من أوراق القوة لأنها مضمونة في القوانين الدولية. والجانب السيادي لا يقتصر على إيران بل يشمل كل الدول في العالم. وهناك الكثير من الدول الإقليمية تصنع الأسلحة والصواريخ والمعدات الحربية وتتمتع بقدرات تقنية متقدمة في تطوير منظومات عسكرية (أقمار اصطناعية، سفن حربية، أجهزة رادار، أنظمة جوية وبرية وبحرية) لا تقل حيوية وتطورا عن منتوجات أميركية وأوروبية (البرازيل، الأرجنتين، جنوب إفريقيا، الهند، باكستان، و«إسرائيل»).
هذا الجانب السيادي حقوقي والقانون الدولي لا يمانع في أن تقرر دولة ما الدخول في مجال التصنيع الحربي وإنتاج أسلحة وطنية لتتجنب الشراء من السوق الدولية. ولكن القانون يمنع ويتدخل دوليا في حال تحول التصنيع إلى مصدر للتهديد والزعزعة والابتزاز.
هنا بالضبط يبدأ الخط الفاصل بين الحق والقوة. فالحق مضمون دوليا بينما القوة عرضة للتفاوض والمفاضلة وازدواجية المعايير. ازدواجية المعايير مسألة سياسية وليست أخلاقية لأنها تتصل بقانون المصلحة وانحياز دولة كبرى إلى صديق أو حليف واختلاف دولة كبرى أخرى مع خصم ترى فيه قوة صاعدة يمكن أن توتر علاقاتها أوتؤثر على مصادر ثروتها. مسألة الانحياز والتمييز سياسة مصلحية وهي تنطلق أصلا من مفهوم «الازدواجية» في المعايير (الحق والباطل تحت سقف واحد).
السياسة هي الخط الفاصل بين الحق والقوة لأنها تشكل الإطار المصلحي لا القانوني في المفاوضات. وبسبب تلك الازدواجية في المعايير يصبح الحق في الإطار السيادي المطلق ليس كافيا للدفاع عن مشروع نووي أو منظومة صواريخ لأن القوة تتدخل لضبطه أو الحد منه في حال انتقل من الجغرافيا الوطنية إلى الجغرافيا السياسية.
مسألة القوة لا تعني الدول الكبرى فقط بل تعني أيضا الدول التي تدافع عن حقها السيادي. فهل تستطيع إيران مثلا الدفاع عن حقوقها التي يضمنها القانون الدولي أم أنها غير قادرة أو على الأقل غير جاهزة لتحمل نتائج وتداعيات حماية حقها السيادي؟
الجواب عن السؤال محكوم بمدى تقدير القيادة السياسية في طهران لقوة إيران وقدرتها في الدفاع عن حقوقها السيادية. والجواب عادة يخضع لميزان العقل لقياس التعادل. فهناك قيادات سياسية تبالغ في قوتها وتتورط (العراق في زمن صدام حسين مثلا). وهناك قيادات تدرس الصورة من مختلف زواياها ثم تراهن على احتمالات وهمية (تحرش جورجيا بروسيا الاتحادية في القوقاز مثلا). وهناك قيادات حكيمة ومتواضعة في حساباتها تقدر تلك المسافة الرمزية بين الحق (السيادة) والاستطاعة (القوة).
الجواب موقوف على قيادة طهران ومدى قدرتها على اتخاذ قرار متوازن يضبط الحق (السيادة) في إطار الاستطاعة (القدرة على الدفاع والحماية) من دون مبالغة ايديولوجية وصراخ وصواريخ بخارية. أميركا تعرف أكثر من أي دولة أخرى حجم إيران وقوتها النووية ونوعية صواريخها ومداها ومخاطرها حتى لو تظاهرت سياسيا بالجهل وعدم الاطلاع. الغباء سياسة دولية وهو جزء من استراتيجية الولايات المتحدة وهو سلاح تستخدمه لارتكاب الأخطاء (احتلال العراق وتقويض دولته مثلا) ثم تدعي لاحقا بضعف المعلومات وقلة الخبرة وتعتذر بعد أن تكون ارتكبت فعلتها.
هل تمتلك إيران القوة الكافية للدفاع عن حقها السيادي؟ هذا هو السؤال الذي يعطي المجال للتقدم خطوة إلى الإمام للتفاوض مع الدول الست، وهو أيضا الجواب الذي يفتح باب التفاوض من دون التوصل إلى تحقيق خطوة للتقدم أو التراجع.
احتمال عدم التقدم والتراجع يبدو المرجح في لقاء جنيف في حال تمسكت إيران بالكلام المعلن وقابلتها الدول الست الكبرى بالردود المعلن عنها. فطهران قبل التوجه إلى سويسرا قالت إنها مستعدة للبحث في كل شيء باستثناء «الملف النووي» لأنه حق سيادي. والدول الست ردت بأنها لن تبحث أي مسألة سوى «الملف النووي» لأنه يتجاوز الحدود ويخترق المجال الحيوي للدول الإقليمية.
هل تتمسك إيران بموقفها الحقوقي مستندة إلى منطق القوة للدفاع عن سيادتها أم تتنازل عن حقها السيادي وتتفاوض بشأن دورها السياسي في المجال الإقليمي؟
أيضا الجواب موقوف على مدى قراءة قيادة طهران لموقعها في الإطار الجواري. فالمسألة محكومة بالحسابات والقياسات واستعداد الأطراف الأخرى لتقبل هذا الدور وحدوده ونسبته الطولية والعرضية. كذلك المسألة مرتبطة بمدى تقبل الدول الست لموقع «الضيف الجديد» واقتناعها بضرورة إعطاء دور لقوة تعتبر نفسها منافسة أو صاحبة حق وتمثل وجهة نظر.المسألة شائكة وقد تحتاج إلى جلسات من المباحثات لإنها ليست بسيطة في الإطارين. فإيران إذا رفضت التفاوض بشأن حقها السيادي فإنها مضطرة للتنازل عن طموحها في لعب دور إقليمي. وإذا وافقت على التنازل عن «الملف النووي» فإنها محكومة بتوازن القوة في دائرة الجوار ومدى قدرتها على كسر التعادل في مجالها الجغرافي السياسي.
صعوبة المسألة تبدأ من نقطة الاستطاعة على تحقيق تسوية حكيمة بين منطق الحق وسياسة القوة. فإذا توصلت إيران إلى نسج هذه المظلة مع الدول الست في جنيف تكون وفرت الحماية لمشروعها وسجلت خطوة باتجاه اختراق حدودها الجغرافية الوطنية والانتقال إلى نطاق الجغرافيا السياسية وغير ذلك يصبح مجرد «بالونات حرارية» و«قنابل صوتية» و«صواريخ بخارية».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2582 - الأربعاء 30 سبتمبر 2009م الموافق 11 شوال 1430هـ