أسفرت الانتخابات النيابية التي أعلنت نتائجها أمس الأول في ألمانيا عن فوز تيار المحافظين (المسيحي الديمقراطي، المسيحي الاشتراكي، والديمقراطي الحر) وتراجعت شعبية اليسار (الاشتراكي الديمقراطي، والخضر) قياسا بالدورات السابقة.
فوز المجموعات المحافظة في دولة اقتصادية كبرى تعاني من أزمة النقد والركود وتراجع الإنتاج الصناعي والصادرات وارتفاع نسبة البطالة ونمو التضخم وتقلص الخدمات الاجتماعية والتأمينات الصحية وضمانات الشيخوخة يكشف عن وجود عوامل ايديولوجية تعطل إمكانات الرؤية السياسية في بلد دخل مشروع «وحدة قومية» قبل عقدين من الزمن.
الانتخابات الأخيرة حصلت بعد مرور عشرين سنة على انهيار جدار برلين في العام 1989 والبدء في توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية بعد انقسام تأسس سياسيّا في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية. الانقسام السياسي الذي شطر ألمانيا في العام 1945 ساهم في تكوين دولتين تعتمدان ايديولوجية متعارضة في الجوهر: الأولى شرقية (اشتراكية) والثانية غربية (رأسمالية).
لعبت الايديولوجيا دورها في تشكيل شخصية ألمانية متضاربة في رؤيتها للدولة والاقتصاد والحرية ما أدى إلى تربية أجيال تتبنى ثقافة يصعب توحيدها من دون مضارٍ وتداعياتٍ. وهذا الأمر حافظ على وجوده على رغم كل محاولات الاستيعاب والاحتواء التي اعتمدتها «الدولة الواحدة» بعد العام 1989.
حتى الآن لايزال الاقتصاد في ألمانيا الغربية يتقدم في نموه على اقتصاد الشطر الشرقي. ودخل الفرد السنوي في الشطر الغربي أعلى من دخل الفرد في الجانب الشرقي. ونسبة العاطلين عن العمل في الغربي أقل من النسبة في الشرقي. هذا التفاوت بين الطرفين طرح إشكالية سياسية عن أهمية دور «الوحدة» في تأمين التعادل والتساوي بين أبناء الهوية الواحدة. وأدى استمرار التفاوت إلى تجديد السؤال بشأن ضرورة التمسك بالوحدة التي كانت نتائجها أقل من التوقعات.
سؤال «الوحدة» لا يعني أن ألمانيا مهددة بالانقسام كما هو حال العراق أو السودان أو اليمن. المسألة مختلفة باعتبار أن أزمة ألمانيا تتجاوز معضلة الهوية أو التمييز بين المناطق. فالأزمة الألمانية تتشكل على أساس تفاوت التقدم بين شطرين ولا تقوم على قاعدة تفاوت التخلف بين المناطق.
مشكلة ألمانيا في التقدم وتأخر مشروعات البنى التحتية في تكوين وعي أهلي مشترك. فالإصلاحات الاقتصادية والتنمية الدائمة وفتح الأبواب للاستثمار والتوظيف في القطاع الشرقي من ألمانيا كلها عناصر ساعدت على منع نمو اعتراضات سياسية على الوحدة. ولكن الإصلاحات لم تكن كافية لتذليل العقبات الثقافية وتطويع الحواجز الأيديولوجية.
مشكلة ألمانيا ليست في الوحدة والهوية والاقتصاد وإنما في الايديولوجيا (الثقافة) التي تأسست خلال 34 عاما من الانقسام السياسي للدولة. فالايديولوجيا الشرقية تأسست على مجموعة مفاهيم ليست بالضرورة اشتراكية ولكنها بالتأكيد استبدادية وديكتاتورية في أسلوب تعاملها الحزبي مع الدولة والاقتصاد والسوق والسلطة والحرية وحق الاعتراض والاحتجاج واحترام العقل والرأي الآخر.
الاستبداد السياسي (ديكتاتورية الحزب الواحد) لعب دوره في تكوين ثقافة ايديولوجية منغلقة على ذاتها وغير قابلة للحوار والنمو والانفتاح. وأدى الاستبداد إلى تشكيل نزعة عقائدية وهمية تقوم على تقديس «الدولة» وتأليه «القيادة» وعبادة «الفرد» وتُحرّم على الناس اعتراض خطابات «القائد» أو الاحتجاج على مقولات «الزعيم».
ايديولوجية الخضوع أسست ثقافة الخنوع وعطلت إمكانات النقد والنقاش والحوار وأغلقت على العقل احتمالات تقبل الاختلاف ما أنتج «مقدسات» لا قيمة لها وأنشأ سلسلة من «المحرمات» لا منطق يبرر وجودها سوى إذلال الناس وتطويعهم وتعوديهم على النفاق والغش والخداع والتبعية للأعلى من دون انتخابات أو اختيار.
مشكلة ألمانيا الأساسية في العام 1989 لم تكن في الاقتصاد ولا في النقد ولا في الاستثمار والتوظيفات وإنما في ثقافة ايديولوجية (استبداد وديكتاتورية) أمعنت في تطويع العقل وتخديره وتعطيله عن التفكير والنقد من خلال مؤسسات الحزب وشبكات الأجهزة ودوائر التعليم والتربية والتلقين المبرمج على تأليه معجزات «القيادة» ومنجزات «الأمين العام».
عبودية الفرد والتبعية لإرشادات الحزب والالتحاق بالتوجيهات من دون نقاش أو اعتراض وتحريم حق الاحتجاج كلها عناصر ايديولوجية تجمعت في عقول جيل تربى على قناعات جاهزة ونهائية ما شكّل ثقافة غير قابلةٍ للانفتاح والاندماج والتعامل العقلاني مع الآخر.
ساهمت ثقافة العبودية والتبعية في تشكيل ذاك «الجدار الايديولوجي» الذي أخّر إمكانات التوحد بين الشطرين بعد سقوط جدار برلين. فالجيل الآتي من الشرقية لم يكن بإمكانه تفهم آليات السوق واستيعاب قوانينها. كذلك لم يكن في موقعٍ يسمح له باستيعاب معنى حق انتخاب القيادة واختيار الحزب البديل.
الانقسام السياسي الذي استمر 34 عاما أدى إلى تكوين جيل في الشطر الشرقي يعتمد على الدولة ولا يعرف القطاع الخاص ولا يدري ماذا تعني مفردة «الملكية الخاصة» ومصطلحات التنافس والتوظيف والاستثمار والإنتاج الفردي والتضخم وارتفاع الأسعار وتراجع الأسهم والالتزام بدفع الضريبة وغيرها من مفاهيم تحتاج إلى وقت حتى تنكشف أسرارها وألغازها قبل الانتقال إلى مرحلة ممارستها وتطبيقها.
بسبب ذاك «الجدار الايديولوجي» تشكلت حواجز ثقافية - نفسية ساهمت في تأخير آليات الوحدة السياسية لأن الانغلاق على الحلقات الصغيرة والضيقة خلال فترة امتدت لثلاثة عقودٍ كان كافيا لتعطيل العقل ومنعه من تسريع خطوات الانخراط في مفهوم التعددية الحزبية والتنوع في الاختيارات والسجال ضد السلطة والاعتراض على مشروعاتها والاحتجاج على خططها. فالجيل الآتي من الشرقية تعود على الترويض وعاش حياته معتمدا على معاشات «الدولة» ومراقبة «الإعلام» وملاحقة «الشرطة» وعبادة «الشخص» وإشراف «الحزب» على التوجيه والتلقين... وكل هذه العناصر ساعدت على تطويل فترة الانفكاء والانطواء والتخوف من الحرية والتردد في عدم المشاركة بالاختيار والانتخاب.
فوز المجموعات المحافظة في الانتخابات النيابية الألمانية الأخيرة وتراجع شعبية «اليسار» على رغم الأزمة النقدية والتفاوت في الدخل الفردي بين الشطرين الموحدين لا يعود تفسيره إلى أسباب اقتصادية وإنما لعوامل ايديولوجية (ثقافية) غير مرئية تساهم في امتناع جيل من المبرمجين عن ممارسة حقه الديمقراطي في الاختيار والانتخاب من دون خوف من مطاردة السلطة وإرهابها النفسي للناس.
مضى الآن أكثر من عقدين على وحدة ألمانيا السياسية ولايزال «الانقسام» يمارس دوره الخفي في تأخير إمكانات التساوي والتعادل ويعرقل عجلة الاندماج الثقافي في هوية قومية واحدة. والتعطيل الحاصل لا يمكن وصله بالعامل الاقتصادي وإنما هناك سلسلة قيودٍ موروثةٍ عن منهجية تربوية أسست ايديولوجية وهمية تعبد «القائد» وتقدس «السلطة» وتهاب الحرية وتتهرب من الانتقاد خوفا من هياج العامة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2581 - الثلثاء 29 سبتمبر 2009م الموافق 10 شوال 1430هـ
شكاًآولكن؟
اشكر الاخ الاعزيز على هذا الموضوع ولاكن لم تكن المقارنه ببعض الدول العربيه كافيه يعنى يحتاح الى مزجيه اكثر في الاحوال مثلا في العراق وبعض دول الخليج التي لها حس ديمقراطي ارجو من الاخ العزيز نويهض الجهد الكافي من اجل ان تكون الفائده اكثر وفرتا لو انه مزج الموضوع مزجا اكثر مما هو فليه مع فائق الشكر والتقدير.
اخوكم : عبد علي عباس البصري