العدد 2581 - الثلثاء 29 سبتمبر 2009م الموافق 10 شوال 1430هـ

الذكرى الـ 60 والنموذج السياسي والحضاري للصعود الصيني

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لقد ورد في المقولات المنسوبة إلى نابليون بونابرت «دع الصين نائمة فإذا استيقظ التنين اهتز العالم». ولا شك أن المارد الصيني قد استيقظ وأن العالم قد اهتز ولكن هذه الهزة هي هزة إيجابية أو بالتعبير الديالكتيكي الصيني أنها هزة حميدة لمصلحة الشعب الصيني ولمصلحة شعوب العالم يكفي الإشارة إلى أربع حقائق ملموسة، الأولى إن الصين تحولت لكي تكون مصنع العالم في إنتاج السلع المتنوعة من مختلف أنواع الجودة ومختلف الأسعار ومن ثم فهي سلع يستطيع الفقير أن يشتريها ويسد بها احتياجاته كما يستطيع الغني أن يشتريها ويسد بها مطالبه وتطلعاته. ولهذا تنافس السلع الصينية في أسواق البلاد النامية كما تنافس في أسواق البلاد المتقدمة.

الثانية أنه مع انفجار الأزمة المالية العالمية تطلع العالم بأسره وخاصة الدول المتقدمة إلى الصين لكي تساهم في إنعاش الاقتصاد العالمي ومساعدته في الخروج من حالة الركود التي وصل إليها وبالفعل فإن خطة الإنعاش الصينية كان لها دورها على المستوى العالمي وحرص الصين على رفع قيمة عملتها وعدم تخفيضها كان قرارا علميا مدروسا وحكيما واستجابة بروح المسئولية لمتطلبات الاقتصاد العالمي.

الثالثة حرص الصين على شطب نحو عشرة مليارات دولار من مديونية الدول النامية في إفريقيا وهو ما لم تقم به أية دولة غنية وفي نفس الوقت حرص الصين على استثمار مبالغ ضخمة من احتياطاتها في أذون الخزانة الأميركية. هذا الإحساس بالمسئولية من الصين لا نجده من دول أخرى نامية أو متقدمة تجاه غيرها من الدول على الساحة الدولية يكفي الإشارة إلى أن نسبة الواحد في المئة التي قررتها الأمم المتحدة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي لكي تكون مساعدات رسمية من الدول المتقدمة للدول النامية لم تحققها أية دول من الدول المتقدمة.

أما الأمر الرابع والأهم فهو رفع مستوى معيشة الشعب الصيني حيث زاد حجم الطبقة المتوسطة كما ارتفع مستوى الفقراء وانخفض عدد الصينيين تحت خط الفقر واستطاعت الصين رفع أكثر من 200 مليون مواطن من تحت خط الفقر خلال السنوات العشر الماضية. بعبارة أخرى إن الحكومة المسئولة أمام شعبها تفي بوعودها وهذا بخلاف موقف حكومات أخرى في مختلف القارات وخاصة في البلاد النامية.

هذا لا يعني أن الصين هي الجنة في الأرض بل هي دولة نامية كبيرة كما يقول المسئولون فيها لا تزال تواجه الكثير من المشكلات ومن بينها أن التقدم الاقتصادي له ثمن باهظ من انتشار ظواهر التلوث إلى الفساد إلى بروز الفوارق بين الطبقات والأقاليم المختلفة إلى غير ذلك من المشكلات بما في ذلك مسألة المشاركة السياسية والديمقراطية لا تزال في بدايتها مقارنة بالتقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا في تقديري مسألة منطقية فالتقدم والمشاركة السياسية في أوروبا أخذ قرنين من الزمان، والثورة الصناعية في أوروبا دفع العمال ثمنا باهظا لها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ولعل روايات تشارلز ديكينز وبلزاك وغيرهما خير ما يشهد على تلك الحالة المتدنية التي كانت تعيشها الطبقات الفقيرة والمتوسطة وخاصة العمال.

ولنا أن نتساءل بمناسبة الذكرى الستين لقيام جمهورية الصين الشعبية ما هي ركائز هذا النموذج السياسي الذي حقق المعجزة الصينية التي يتحدث عنها العالم بأسره والتي آثارها ظاهرة للعيان؟ ومن دراستي للتجربة الصينية أجد أن هذا النموذج قام على ركائز أربع هي:1 - الفلسفة الإيديولوجية أو ما يمكن أن نسمية باللغة العربية المعاصرة الرؤية. 2 - القوة العسكرية المتمثلة في الجيش الصيني وتطوره التكنولوجي اللاحق. 3 - الحزب الشيوعي الصيني الذي نشأ العام 1919 ثم تطور في مراحل متعددة بين مد وجزر، وصعود وتراجع، ولكنه ظل باقيا في دوره الأساس وفي كوادره الرئيسة وفي تأثيره المحوري. 4 - الزعيم السياسي الكارزماتي Charismatic Leader ونعرض لهذه الركائز الأربع بإيجاز شديد.


الأولى: الرؤية الاستراتيجية

وهذه الرؤية اتسمت بثلاث سمات: أولها المرونة، والتغيير المستمر، وثانيها الجمع بين التراث العالمي والمساهمة الصينية، حيث وجدنا الماركسية اللينينية فكر ماوتسي تونج، أو إضافات دنج سياو بنج «الاشتراكية بخصائص صينية»، أو إضافة جيانج تزمين «دور الرأسمالية الوطنية»، أو إضافة خوجنتاو «الثورة التكولوجية والمعرفية»، وثالثها الانفتاح على الآخر بحرص وعناية، ولكن دون عقد Complex ماضية أو حاضرة، مع استلهام التراث الصيني والحضارة الصينية العريقة التي قامت على القيم «التعليم والتعلم، الجهاز الإداري وامتحانات المسابقة للوظيفة العامة»، المحاسبة على الأخطاء، ومعاقبة الفاسدين (حيث تم مساءلة قيادات كبيرة في الحزب تم معاقبتهم بل وإعدام بعضهم).


الثانية: القوة العسكرية

لقد نشأ الجيش الصيني في أسلوب تدريجي وتطوري عبر سنوات النضال ضد الاحتلال الياباني ثم الحرب الأهلية مع الكومنتاج وتطورت أساليبه وفقا لذلك ونشير هنا إلى:

1 - ابتكار أسلوب المسيرة الكبرى، حرب العصابات، الجيش الشعبي، التلاحم بين الجيش والشعب، التخطيط العسكري والاستراتيجي وفقا للإمكانيات والمعطيات، ولعلنا نتذكر أن أكبر عالم في الاستراتيجية عبر العصور كان من الصين، هو سون تزو Sun Tzu 479-551) ق.م) وقد اعتمد ماوتسي تونج في كتاباته العسكرية على فكره وأضاف إليها افكار استراتيجيين صينيين آخرين وخاصة مدرسة المشرعين Legalist School التي ركزت على مفهوم القوة العسكرية وأفكار الاستراتيجيين الألمان وخاصة أبوعلم الاستراتيجية الحديث كلوزوفيتش وغيره.

2 - تحول الجيش إلى قوة تحديث في المجتمع ببناء التكنولوجيا والتطور العلمي في ميادين ثورة الاتصالات في مرحلة الإصلاح والانفتاح التي بدأت العام 1978.

3 - بناء القاعدة العسكرية التي تتماشى مع مقتضيات العصر مثل تفجير القنبلة الذرية العام 1964 ثم الهيدروجينية. تطوير الصواريخ عابرة القارات. برامج الفضاء والأقمار الصناعية وإرسال مركب فضاء من دون إنسان. الاتجاه لبناء قوة بحرية حديثة (حاملات طائرات، مدمرات، غواصات) تكثيف التواجد في المحيط الهندي ومضيق ملقا لأن 80 في المئة من واردات الصين من النفط تأتي عرب هذا المضيق كذلك نفس النسبة من تجارتها سواء الصادرات أو الواردات عبر ذلك المضيق. والإنطلاق للبحار الدولية والمحيطات بالمشاركة مع غيرها في مقاومة القرصنة في خليج عدن وبذلك ستتحول الصين من قوة بحرية إقليمية إلى قوة بحرية دولية.

4 - التعاون مع جميع الدول لتحقيق الهدف من التطور العسكري التكنولوجي سواء في التسلح البحري أو الصاروخي أو غيره بالتعاون مع روسيا، فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، اليابان، الولايات المتحدة، و»إسرائيل» وغيرها.


الثالثة: الحزب الشيوعي الصيني

تطور الحزب في مراحل عدة، حيث قاد النضال الشعبي منذ نشأته العام 1919 وتعرض لحملات تطهير داخلي من حين لأخر لتحقيق عدة أهداف: منع الانقسامات الداخلية والصراع الداخلي المتغيرة في الصين والعالم من خلال تطوير فكره الإيديولوجي، تدريب الكوادر بصفة دائمة من أدنى كادر في وظائف الدولة حتى مناصب الوزراء.

تصعيد الكوادر للمناصب الإدارية، تحديد مدة الوظيفة الإدارية بأربع سنوات قابلة للتجديد لأربع سنوات أخرى فقط.

اعتماد المتلازمة الثنائية للقيادة Co-leadership بين الجهاز الإداري والجهاز الحزبي على كافة المستويات فأمين الحزب في المدينة أو القرية أو المحافظة أو الإقليم أو الدولة هو الأول. في حين العمدة أو المحافظ أو رئيس الوزراء هو الثاني- المسئول الحزبي يراجع ويتابع ويقدم التوصيات.

- المسئول الإداري يخطط وينفذ ويتابع ويقدم كشف حساب الإنجاز أو العقبات.


الرابعة: الزعيم السياسي الكارزماتي

الذي تألق حتى ما يقرب من التقديس Cult كما حدث مع ماوتسي تونج، أو تألق حتى أصبح الزعيم الروحي God Father كما حدث مع دنج سياوبنج، أو تألق في إطار القيادة السياسية الجماعية كما حدث مع جيانج تزمين، وخوجنتاو الرئيسين السابق والحالي.

وختاما تحية وتهنئة لشعب الصين وسفارتها في البحرين ومصر بوجه خاص بقيادة الصديقين لي جي قوة ووشون خواه.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 2581 - الثلثاء 29 سبتمبر 2009م الموافق 10 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً