طارق حجي - باحث وأكاديمي مصري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
«مقتلُنا يكمن في لساننا
فكم دفعنا غاليا ضريبةَ الكلامْ.
إذا خسرنا الحربَ - لا غرابةْ
لأننا ندخلها بكلِ ما يملكه الشرقيٌ من مواهب الخطابةْ.
أبالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ
لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ...»
(نزار قباني)
في الستينيات كنا نتحدث عن قوتنا واصفين إياها بأكبر قوة في الشرق الأوسط... ثم جاء صباح الخامس من يونيو/ حزيران 1967 ليفتح عيوننا على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد «كلام كبير».
وخلال السنوات نفسها كنا نتكلم عن عدونا التاريخي بصفته «عصابات يهودية»… ثم جاءت الأحداث لتثبت أن هذا العدو كان شيئا أخطر بكثير من «مجرد عصابات»… كان كلامُنا مرة أخرى مجرد «كلام كبير».
وعندما وصفنا رئيس وزراء بريطانيا بأنه (خرع) وهو لفظ عامي مصري يعني أنه ليس رجلا بالمعنى الكامل… وعندما اقترحنا على الولايات المتحدة الأميركية أن تشرب من البحرين (الأحمر والأبيض)… وعندما تحدثنا عن الصاروخ القاهر وشقيقه الظافر... لم يكن ذلك في الحقيقة إلا مجرد «كلام كبير».
وعندما نستمع الآن للأغاني الوطنية التي أنتجت في الستينيات (ورغم اعترافنا بجودة العمل الفني وروعة الحلم الوطني والقومي) فإننا نجد عشرات الأمثلة على كلام لم يكن إلا مجرد «كلام كبير».
وعندما نترك الستينيات ونمر على السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات نجد أن «داء الكلام الكبير» ظل ملازما لنا بشكل لا يخفى على أحد؛ بل إنه وصل الآن إلى معظم مناطق حياتنا العامة، وأصبح الذين يتكلمون بلغةٍ غير لغته «ثلة من أشباه الغرباء» الذين يعزفون لحنا غريبا يصدمُ الآذان.
فنحن عندما نتحدث عن تاريخنا، لا نستعمل لغة العلم والموضوعية وإنما نغرق في زخم من الكلام الكبير.
وعندما نتحدث عن واقعنا المعاصر، نحشر مرة أخرى «قوافل الكلام الكبير». وحتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم، ينهمر «الكلام الكبير»؛ فرغم معرفتنا بأن مستوانا في هذه اللعبة الرياضية يقع ما بين «المتوسط» و «المتواضع» (على المستوى العالمي) فإننا لا نتردد ولا نتأخر عن استعمال أوصاف مثل «الفراعنة يهزمون»… ونكون هنا متسقين مع «تيار الكلام الكبير» الذي عم واستفحل في تفكيرنا خلال نصف القرن الأخير.
وإذا تأملنا الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا «جيوشا عارمة من الكلام الكبير»... فكل لقاء هو «لقاء قمة»… وكل قرار هو «قرار تاريخي»...
ومن الواجب أن نقول إننا لا نفتعل ذلك افتعالا، لأنه أصبح جزءا من نسيج تفكيرنا، بمعنى أننا نكتب ونتكلم بهذه الكيفية (كيفية الكلام الكبير) لا من (باب التملق) وليس من باب (النفاق) ولا من باب (الكذب المقصود) وإنما نكتب ونتكلم هكذا من باب الاتساق مع «عيب كبير» استقر في ثقافتنا وعقولنا وأصبح من الطبيعي والمنطقي أن يجد طريقه لخارج رؤوسنا عن طريق ألسنتنا.
ورغم أن البعض (وربما القلة) يلاحظون هذا العيب الخطير من عيوب التفكير، إلا أن معظمهم عندما يتصدرون للحديث يقعون في المحظور وينساقون مع تيار «الكلام الكبير»، وهو ما يثبت أن هذه السمة قد أضحت متفشية إلى أبعد الحدود وأن «الهواء الثقافي» لنا أصبح متشبعا بهذه الخصلة إلى أبعد حدود التشبع.
ولعل ضرب الأمثلة يكون أيضا مفيدا هنا: بعد حادثة الأقصر المفجعة في خريف العام 1997 أذاع التلفزيون المصري تغطية لماراثون الجري (العدو) حول أهرام الجيزة، وقامت الكاميرا بمقابلة نحو عشرة أشخاص مختلفين... كرروا الكلام نفسه وبالصيغ نفسها وقال كل منهم (وكأنه يكرر حديثا محفوظا): «إن مصر هي بلد الأمن والأمان... وإن العالم كله يعرف ذلك… وإن الإرهاب لا يقع على أرض مصر فقط وإنما في كل مكان بالعالم… وإن الدنيا كلها تتطلع لزيارة آثارنا التي لا مثيل لها في العالم».
وكان مصدر دهشتي تصوري أن تطابق الكلام بهذه الكيفية يكاد يكون مستحيلا بين عشرة أشخاص مختلفين… ولكنها سطوة «الجو الثقافي العام» المشبع إلى أقصى حد بخصلة «الكلام الكبير».
وقد كانت السنوات العشرون التي قضيتها في واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية العالمية فرصة هائلة لكي أكتشف أننا في هذا المضمار أصبحنا (وأكرر: أصبحنا) مختلفين عن معظم شعوب العالم بشرقه وغربه.
فأبناء الحضارة الغربية (بما في ذلك أميركا الشمالية) تواصل نموهم الثقافي في اتجاه مختلف يقوم على اعتبار «الكلام الكبير» انعكاسا مؤكدا لعدم المعرفة. فالمعرفة الإنسانية معقدة ومركبة ولا تسمح بالغرق في «الكلام الكبير»، بل تأخذنا إلى لغة متوسطة تحاول - قدر الطاقة - أن تعكس حقائق العلم والثقافة.
أما أبناء الحضارة أو الحضارات الآسيوية (مثل اليابان وغيرها) فإن التحفظ كان ولا يزال من سمات هذه الحضارة بشكل واضح، وهو ما يمنع أيضا استفحال ظاهرة الكلام الكبير.
أما شعوب العالم العربي، فإنها تشترك معنا - بدرجة أو بأخرى - لكون الثقافة العربية قد اتسمت في مراحل عديدة بسمة «الكلام الكبير». فالشعر العربي عامر بقصائد المدح والهجاء التي تطفح بالكلام الكبير الذي لا يعكس بالضرورة حقائق الواقع والأشياء. بل إن ثقافتنا اعترفت بأن معظم هذا «الكلام الكبير» مجرد «كلام» ولا أساس له من الواقع، عندما نحتنا المقولة المشهورة (أعذب الشعر: أكذبه).
وكان النص القرآني (كالعادة) رائعا في وصفه الشعراء (في هذه البيئة) عندما وصفهم بأنهم في كل وادٍ يهيمون (وأنهم يقولون ما لا يفعلون).
وكاتب هذه السطور يرى أن من أوجب واجبات من يهمه تصويب مسار العقل المصري أن يقوم بإيقاظ هذا العقل وينهره بشدة أمام ظاهرة اتسامه بعلة الكلام الكبير وحقيقة أنها ظاهرة منبتة الصلة بالواقع وحقائق الأشياء. وأن يُظهر الآثار الهدّامة لهذه الظاهرة التي جعلت البعض يصنفنا (بخبث وأغراض) بأننا حضارة كلامية أو حضارة حنجرية أو (مع التطور العلمي) حضارة ميكروفونية…
ومن المهم للغاية أن نفتح عيون أبناء وبنات هذا الوطن (من خلال برامج التعليم) على حقيقة هذا العيب وما يجره علينا من عواقب وخيمة؛ إذ يجعلنا من جهة مثار تعجب العالم… ويجعلنا من جهة أخرى «سجناء عالم خرافي من صنعنا ولا أساس له في الواقع»... كما أنه يجعلنا «سجناء الماضي» حيث نصف ماضينا بزخم من الكلام الكبير ثم نهاجر إليه. ولا شك أن «علة الكلام الكبير» تتصل بعلل فكرية أخرى مثل: عدم الموضوعية... والهجرة للماضي… والمغالاة في مدح الذات… وضيق الصدر بالنقد. بل إنني لا أبالغ إذ أقول إن «علة الكلام الكبير» تقيم جسورا للتواصل بين هذه العلل الأخرى.
كذلك، فإنه من الضروري أن نناقش الصلة بين هذه العلة الفكرية (علة الكلام الكبير) وضيق الهامش الديمقراطي. ففي ظل مناخ ثقافي عام يتسم بداء الكلام الكبير يكون من الصعب تطوير الهامش الديمقراطي كما يكون من السهل نجاح فرق سياسية تملك من «الخطاب الغوغائي» (الديماغوجي) أضعاف ما تملك من «الخطاب الموضوعي». فالذي يقول لنا إن مشروعه الفكري هو «الحل» إنما يقدم لنا وجبة أخرى ساخنة من وجبات «الكلام الكبير»، فمعضلات الواقع الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيدا من أن يكون علاجها بشعار عام يستمد جذوره من تربة الكلام الكبير كهذا الشعار.
وما أكثر ما رددت لنفسي وأنا أسمع جولات الحوار العام تتلاطم أمواجها بفعل «الكلام الكبير» ما أكثر ما رددت لنفسي أبياتا من شعر نزار قباني يقول فيها بعبقرية:
«لقد لبسنا قشرة الحضارة... والروح جاهليةْ».
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2580 - الإثنين 28 سبتمبر 2009م الموافق 09 شوال 1430هـ