افتتح أمس رئيس الجمهورية اللبناني ميشال سليمان «دورة الألعاب الفرنكوفونية السادسة» بحضور 30 وزيرا ومشاركة 3 آلاف لاعب من 42 بلدا يتنافسون على 7 أنشطة رياضية و7 ثقافية وفنية وبكلفة بلغت موازنتها 12 مليون يورو.
مصادفة افتتاح المناسبة في بلد يعاني تعارضات أهلية وفوضى سياسية وضعف الدولة وعدم قدرة السلطة على تشكيل حكومة وطنية يعطي فكرة عن تلك المفارقات التي يعيشها وطن الحريات والانفتاح والتلاقح الحضاري والتنوع الديني. فالانفتاح جرى في توقيت غير مناسب ولكن مجرد حصوله يشكل إضافة نوعية تؤشر إلى تلك المفارقات التي تأسس عليها الكيان السياسي من العام 1920.
الفرنكوفونية من جانبها تشكل ذاك الهيكل الفرنسي الموازي لمنظمة الكومنولث البريطانية. ولكنها في جانبها اللبناني تمثل تلك الخصوصية التي نهضت عليها صيغة بلاد الأرز. فالصيغة خاصة جدا وهي تشكلت تقليديا على قواعد سياسية بدأت ترتسم معالمها في إطار حروب أهلية شهدها جبل لبنان في القرن التاسع عشر. وأفضت الحروب الدائمة التي امتدت وتقطعت وتقاطعت إقليميا وطائفيا ودوليا من العام 1840 إلى العام 1860 إلى توليد فكرة الحكم الذاتي (متصرفية جبل لبنان) على أساس المحاصصة الطائفية والمذهبية بين الجماعات الأهلية (الأقليات) التي تعيش في تلك المرتفعات والهضاب والوديان.
فكرة الكانتون (المتصرفية) لم تهبط من السماء وإنما جاءت ردا على حاجة ونتيجة توافقات دولية مع السلطنة العثمانية آنذاك. فالحرب الطائفية التي نشبت بين الجماعات الأهلية شكلت مناسبة سياسية لتدخل الدول الأوروبية وأعطت فرصة لفرنسا أن تقود حملة عسكرية بحرية - برية احتلت خلالها بيروت وتقدمت للسيطرة على الجبل اللبناني ولم تنسحب إلا بعد التفاهم مع السلطنة العثمانية على تأسيس «متصرفية» برئاسة مسيحي من رعايا السلطنة يعاونه مجلس إداري يتألف من 12 عضوا: 4 موارنة، 3 دروز، 2 أرثوذكس، واحد كاثوليك، واحد من السنة، واحد من الشيعة.
منذ تلك الفترة استقرت الفكرة ولم تتطور إلا في إطارها الديموغرافي (السكاني). ونجحت المتصرفية بالصمود إلى أن انهارت في الحرب العالمية الأولى حين تصادمت الدول الكبرى في العام 1914 ودخلت تركيا (الأتاتوركية) جبهة المحور ضد الحلفاء ما أدى إلى انقلاب الموازين الإقليمية وخروج القوات التركية وسقوط بلاد الشام تحت الاحتلال ودخولها فترة الانتداب البريطاني - الفرنسي.
بعد العام 1918 (نهاية الحرب الكونية) أعيد إنتاج الفكرة وتوسيعها وفق النمط السابق. فالتطور الذي حصل من العام 1860 لم يترك تأثيراته على صيغة أبرمت قواعدها الدستورية (التوافقية) في القرن التاسع عشر. وعلى أساس تلك الذهنية الطائفية-المذهبية أعلنت فرنسا قيام دولة لبنان الكبير في العام 1920 وفق قواعد دستورية نمطية تكيفت مع التضاريس السكانية والخريطة الأهلية للأقليات الكبيرة أو الصغيرة.
استمر الحال على حاله حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945 وحصول لبنان استقلاله على أساس ميثاق وطني توافقي في هويته وصيغته. فالاستقلال السياسي عن فرنسا لم يشكل مناسبة وطنية للبدء في تأسيس استقلال دستوري مخالف لتلك النمطية (المحاصصة) التي كانت سائدة في عصر القرن التاسع عشر.
إعادة إنتاج الفكرة ساهمت في توليد أزمات دائمة لاتزال تتكرر صورها تباعا في المشهد اللبناني. فهذا البلد الصغير الغني في أطيافه الأهلية سقط في مأزق عدم القدرة على توليف تقدمه على مستويات اللغة والثقافة والانفتاح والهجرة واكتساب المعرفة والتقدم العمراني وغيرها من حسنات مع تخلفه على مستويات نظام المحاصصة الطائفية والتوظيف المذهبي والتشطير المناطقي وغيرها من سلبيات. وشكلت هذه المفارقات سمة بارزة في تكوين البلد وانشطاره الدائم على مراكز قوى لها مصلحة في عدم قيام دولة قوية وعادلة وقادرة على ضبط ميزان التقدم بين مختلف المكونات.
نمو الهوة عطّل إمكانات تطور النظام السياسي ليتجانس مع التقدم العمراني (الثقافي) ودفع الطبقات الوسطى والنخب إلى الهجرة خارج بلاد الأرز لتأمين الرزق من جهة وبحثا عن الاستقرار النفسي من جهة.
ملايين اللبنانيين هاجروا من الوطن منذ القرن التاسع عشر وانتشروا تباعا في مختلف المعمورة. والإحصاءات غير الرسمية تقدر عدد اللبنانيين في بلدان أميركا الجنوبية والمكسيك والولايات المتحدة وكندا وأوروبا وإفريقيا وأستراليا أكثر من 12 مليونا. وغالبية اللبنانيين استقروا وانقطعوا عن الوطن الأم ولا يتذكرون عنه سوى تلك الروايات الشفاهية المنقولة من الجيل الأول للثاني والثالث بينما بدأ الجيل الرابع ينخرط كليا في بلاده الجديدة ولا يتذكر من بلاد الأرز سوى الصور السياحية والمأكولات الشهية.
أربعة ملايين لبناني هم على علاقة تواصل مع البلد الصغير. ومعظم هؤلاء هاجروا حديثا من خمسينات وستينات القرن الماضي إلى أن جاءت الحروب الإقليمية-الأهلية في السبعينات لترفع نسبة النزوح والانتقال والانقطاع عن أرض الآباء والأجداد.
بلد الهجرات الدائمة يعاني الآن من أزمات. وأزمة تأليف الحكومة هي صورة بارزة تعكس ضمنا عشرات الصور المتراكمة منذ القرن التاسع عشر. فهذا البلد وطن المفارقات، فهو اكتسب لغات ومعارف وثقافات وخبرات وعلوم وأنظمة شعوب وحضارات احتك بها وعاش معها وأخذ منها وأعطى ما عنده من جهد وعمل للتكيّف في أطرها يعجز عن تصحيح منظومة سياسية مؤقتة جرى التفاهم عليها مع السلطنة العثمانية قبل 150 سنة. الصيغة جاءت لتتوافق مع مفاهيم كانت سائدة في ذاك الزمان. آنذاك كانت أوروبا تمر في طور الفكرة القومية (الدولة الحديثة) وتنمو في سياق آخر في طور التوسع الاستعماري في العالم مستفيدة من تخلف أنظمة الدول القديمة وتبعثرها السياسي على هويات دينية وقبلية ومناطقية.
فرنسا في القرن التاسع عشر لم تعتمد الصيغة القومية (الوطنية) لتأسيس نظام المتصرفية (كانتون الحكم الذاتي) في جبل لبنان وإنما سايرت منظومة العلاقات العثمانية التي تأخذ بنظام الملل والنحل (دستور التعامل مع الأقليات والجماعات الأهلية) واتجهت نحو تكييفها بما يخدم مصالحها في المشرق العربي. والمشكلة التي تأسست مؤقتا للخروج من مأزق الاقتتال الأهلي أعيد تنظيمها وترتيبها وفق النمط السابق بعد انسحاب قوات السلطنة (التركية) ودخول فرنسا لبنان.
الصيغة اللبنانية ليست فرنسية ولا عثمانية وإنما هي مزيج مركب من أصول متعارضة في الجوهر بين حداثة أوروبية وتقاليد مشرقية ما أنتج ذاك الدستور الخاص الذي يتكيّف في نصوصه على خريطة بشرية وشبكة من جماعات أهلية تمتلك خصوصيات وأنظمة مدنية ذاتية.
هذه الصيغة الغريبة من نوعها في الدساتير والأنظمة نجحت في جانب بإطلاق نوع من الحريات الفردية على المستويات الحياتية والمعيشية والنمطية وفشلت في جانب آخر بإخراج الفرد من إطار هويته الطائفية والمذهبية والمناطقية. وبسبب هذه المفارقات عاش ويعيش اللبناني ازدواجية يومية بين فكرة مثالية (أيديولوجية) لم تتحقق وغير قابلة للتحقيق وبين واقع منشطر إلى دوائر ضيّقة تمنعه من التقدم في إطار دولة قوية وعادلة وتتمتع بموقع خاص في قيادة التحوّل الحاصل في شخصية المجتمع.
الأزمة الحالية قديمة ويرجح أن تستمر لأنها ليست وقفا على حكومة وإنما هي نتاج تصورات متوارثة منذ القرن التاسع عشر. فهذا البلد منذ تأسيسه يعيش إلى جوار خط الزلازل السياسية وينمو تحت ضغط التهديدات الإسرائيلية والمتغيرات العنيفة في محيطه الجغرافي-الإقليمي. إلى خط الزلازل هناك تعايش بين الطوائف واضطراب دائم، وهناك تساكن بين الحرب والسلم وبين أقصى الانفتاح وأقصى الانغلاق. وهذا النوع النمطي من التعارض يشكل مفارقة تعطي أحيانا نكهة جميلة خاصة ولكنها تعصف بالناس وتزعزع استقرارهم ما يدفع الطبقات الوسطى والنخب للهجرة بحثا عن الرزق وطلبا للأمان والراحة.
إنها مفارقة بين قوانين الجغرافيا وقوانين التاريخ ودساتير الدول وأعراف البشر. وهذه المفارقة يمكن ملاحظتها يوميا في بلاد الأرز. والمشهد الأخير في تلك الصورة الضائعة بين حداثة أوروبية ونمطية عثمانية جرى افتتاح دورة الألعاب «الفرنكوفونية» أمس بحضور رئيس وزراء فرنسا فرانسوا فيون.
إنها مفارقة. والمفارقة ليست مصادفة المناسبة في ظل غياب حكومة وإنما في إطلاق فعالية تعكس ذاك التاريخ من الهجرة اللبنانية إلى العالم (الانفتاح والتلاقح والتعارف) إلى جانب تاريخ من الحروب الدائمة وما يرافقها من تقاتل وتذابح وانغلاق وانطواء وهروب إلى أصغر الحلقات الأهلية وأتفه الخرافات.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2579 - الأحد 27 سبتمبر 2009م الموافق 08 شوال 1430هـ
لبنان مثل الخبزة
لبنان مثل الخبزة اسرائيل تنهش فيه من جهة والعرب من جهة اخرى وامريكا قاعدة تحاول تغلظ المرقة !!
شكراً وليد
شكراً ومن كل قلبي على هاذا الاستقراء التاريخي والسياسي للبنان والذي اعجبني اكثر عندما وصفت لبنان ببلد الحريات والثقافات وتمازج الاديان والعقائد والافكار والمذاهب على كل الصعد . دامت لبنان بلد الانسان الحر العربي الاول . بلدهزمت الجهل قبل ان تهزم اسرائيل حيث اول مطبعه في العالم العربي جيث اول حريه انسانيه عربيه حيث العروبه والشهامه والعنفوان العربي الاصيل دامت لبنان جبلا شامخا اصم ترمقه الاعين محدقتا تستشف منه العلم والانسانيه والصمود .عبد علي البصري