من قلب الأمم المتحدة، وهي المنظمة الدولية التي انطلقت من داخلها، قبل ما يزيد على الستين سنة، إشارة الاعتراف بكيان العدو، والتي تمثّل انقلابا على ميثاقها وشرعتها الإنسانيّة، أراد الرئيس الأميركي للقضية الفلسطينية أن تنحدر إلى المستوى الذي يُقتصر فيه على الجانب الرمزي في صورة ثلاثية تجمعه ورئيس حكومة العدوّ ورئيس السلطة الفلسطينية. وإذا كانت هذه الصورة لا تعني شيئا للراعي الأميركي للتسوية، ولا لمسئولي العدوّ الذي أفصحت وسائل إعلامه عن أن اللقاء كان مجرد «مزحة» على حساب أوباما... بما يوحي بأنّ من يسمّون بعرب الاعتدال باتوا يتحرّكون في قضاياهم المصيريّة من خلال المزاح الذي نستذكر فيه قول الشاعر: يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم.
وربّما يكون من أخطر ما خرجت به هذه القمّة أنّها أعطت العدوّ الصهيوني الاعتراف الرئاسي الأميركي بيهوديّة الكيان، ما جعل الإسرائيليّين يهلّلون فرحا أمام هذا الإنجاز، من دون أن يُعطى العرب أيّ شيء ممّا كانوا يطالبون به، ولو على مستوى وقف الاستيطان.
وهكذا، استعادت الرئاسة الأميركية صورتها الحقيقيّة، التي ترضخ دائما للشروط الإسرائيليّة، فتطلق يد العدوّ ليبني ويتوسّع في الاستيطان إلى أبعد مدى، ومع ذلك، يحدّثونك في الساحات العربية عن السلام الآتي من بين ألغام المرحلة، وعلى حساب حقائق التاريخ وآفاق المستقبل.
إننا نعتقد أن أوباما أخفق، كما أسلافه من الرؤساء، عندما تحرّك كرئيس مسكونٍ بتحقيق أهداف ذاتيّة يجعلها في سجلّ إنجازاته التاريخيّة، والتي لا تملك أن تنطلق مع الحقّ بعيدا عن تعنّت الاحتلال الصهيوني وإجرامه، لتجد أنّ أهون الطرق يكمن في الضغط على العرب، من أجل «اتخاذ خطوات ملموسة» - كما يعبّرون دائما -، وهي العبارة التي أسقطت المبادرة العربية وجعلتها مجرد كلمات وأفكار لا تساوي شيئا، ولا تزال تتحرّك بالعرب في دوّامة التخلّي حتّى عن ورق التوت.
وإننا، أمام هذا الواقع، وأمام ما يجري داخل فلسطين المحتلة من اغتيالات متفرقة للفلسطينيين، ومحاكمات ظالمة لهم، ومصادرة لبيوتهم وأرضهم وخصوصا في القدس الشريف، وأمام التوسّع الجديد والمتصاعد في الحفريات حول القدس نفسها لإنشاء مستوطنات جديدة، وفي ظل المصادقات الحكومية الصهيونية الجديدة على بناء أربعمئة وخمسٍ وخمسين وحدة سكنية جديدة في المستوطنات، نعتقد أن المسألة لا تعدو كونها خديعة كبرى يتوزّع فيها الجانبان الأميركي والإسرائيلي الأدوار، لتموت القضية الفلسطينية في رحم التفاصيل السياسية والعناوين الهامشية، وفي خطوات المجاملة التي لا يُسمح فيها للحمل بأن يغادر حضن الذئاب إذا كانت الخطة تقتضي التقاط الصورة في اللحظة السياسية المناسبة التي يُعمل فيها لمصادرة القضية بالكامل. إننا نقول للشعب الفلسطيني الذي تُرك في الساحة وحده، حيث لا جامعة عربية تتحمّل المسئولية، ولا لجنة للقدس تتحرك حتى في مجال إصدار البيانات، ولا أموال عربية تذهب لحماية الفلسطينيين المقدسيين، في الوقت الذي تذهب فيه المليارات العربية لحماية الشركات الغربية من الإفلاس، ولإعادة الروح إلى النوادي الرياضية الغربية هنا وهناك...
إننا نقول للشعب الفلسطيني المظلوم والمضطهد، والذي اجتمعت عليه محاور الاستكبار وجحافل الاحتلال وجيوش المتواطئين: إن عليك أن تواصل جهدك وجهادك في التمسك بالأرض، والإصرار على احتضان القضية، ومنع العدو من احتلال الذاكرة، لأن الأمة بشرفائها ومخلصيها معك، ولأن الظلم الذي وجد أكبر مساحة من مساحات التواطؤ في الماضي والحاضر، سوف يصطدم بإصرار الشعب على تحقيق أهدافه على مستوى المستقبل كله.
وعلى خطّ آخر، نرصد اجتماعا جديدا وتحالفا متجددا لقوى الاستكبار العالمي لمحاصرة الجمهورية الإسلامية في إيران، تحت عنوان الملف النووي السلمي، ليكون هذا الملفّ قاعدة لتحقيق أهداف أخرى يتصل بعضها بالتهويل على العرب، لإعطاء إيران دور الفزّاعة في المنطقة، ولعقد المزيد من صفقات التسلّح مع دول الخليج، للإبقاء على القواعد العسكرية في المنطقة تحت عنوان الحماية، ولمحاصرة إيران ومنعها من أن تشكّل إزعاجا للعدوّ الصهيوني ولمشروع الهيمنة على المنطقة وثرواتها الطبيعية، ولمواصلة الضغط على الأمة ومصادرة قرارها السياسي، ومنع قيام محور وطني إسلامي وعربي أصيل يرفض مصادرة الأمة وبيع القضية الفلسطينية.
إننا نقول للعرب والمسلمين: إن إيران هي العنوان الذي تستخدمه حركة الدعاية السياسية والإعلامية الغربية، ولكن المستهدف هو فلسطين، وهي الأمة بقضاياها الكبرى، وبمواقع العزة والممانعة فيها.
وعلى صعيد الواقع العربي، نرى بأنّ التجربة السابقة للعلاقات العربيّة العربيّة بعد الأزمات التي كانت تحصل فيما بين الدول العربيّة، هي أنّها علاقات تتحرّك على السطح، بحيث تهتزّ لأيّ طارئ؛ بينما المطلوب في العلاقات العربيّة أن تمثّل الوحدة التي يشعر معها العرب أنّ القضايا العربيّة تمثّل عناصر اللقاء بشكل جدّي، لا أن تنطلق العلاقات من خلال لقاءات بروتوكوليّة أو مجاملات شكليّة، تقتصر على الراحة النفسيّة التي تضفيها على الشارع العربي، ولكنّها لا تلبث أن تزول عندما تتدخّل بعض المحاور الدوليّة، أو حتّى بعض المحاور العربيّة المرتبطة بحركتها بالمحاور الدوليّة.
أما في لبنان الذي باتت أوضاعه الداخليّة أكثر التصاقا بما يجري في الخارج، فإنّ علينا أن نراقب تطوّر العلاقات العربيّة في تأثيرها على المسألة اللبنانيّة، لندرس جيّدا حجم التعقيدات المحيطة بها؛ لأنّ المسألة اللبنانيّة في تداعيات الحلول أو التعقيد ليست نتيجة لطبيعة العلاقة بين دولتين عربيّتين، بل تتحرّك - إلى جانب ذلك - من خلال بعض المحاور الدوليّة التي لا تزال تعتبر لبنان موقعا من مواقعها الاستراتيجية الأساسية في المنطقة.
وربّما يكون على اللبنانيّين أن ينتظروا طويلا؛ فليس هناك في هذا العالم من تأخذه الرأفة حيال تصاعد أرقام الفقر في لبنان، وليس هناك من يتحسس آلام الجوعى والمقهورين والمعذَّبين، ولا من يحزن لحال بلد الإشعاع الذي تلفه الظلمة من أقصاه إلى أقصاه، بما فيه أولئك الذين يرسلون خلاصة ثرواتهم البترولية والغازية إلى ما وراء البحار... وليس هناك من هو مستعد لاتخاذ خطوة جريئة لإخراج العلاقات العربية العربية من تعقيداتها التي تكاد تكون شكلية في كثير من عناوينها. وكان الله بعون اللبنانيين الذين يدفعون الأثمان مضاعفة في كل الأزمات، ولكنهم لا يلتفتون إلى مأساتهم ومعاناتهم عندما تُقرع الأجراس العصبية والمذهبية والسياسية على أبواب الانتخابات النيابية أو المحطات الاستراتيجية.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2577 - الجمعة 25 سبتمبر 2009م الموافق 06 شوال 1430هـ