العدد 2576 - الجمعة 25 سبتمبر 2009م الموافق 06 شوال 1430هـ

لا جدوى من التوفيق بين الشريعة والحكمة

صعود الفلسفة في زمن دولة الموحدين (6)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وصل «حي» إلى سؤال (من هو فاعل الصورة؟) حين بلغ 28 من عمره. فاكتشف أن كل الصور حادثة ولا بد لها من فاعل، ولا بد من استعداد الجسم لأن يصدر عنه الفعل، ولاحظ «أن الأفعال الصادرة عنها (الصور)، ليست في الحقيقة لها، وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها» (ص 164). وبالتالي فإن الأجسام فاسدة وكلها لها نهاية وليس من جسم غير متناه.

تنازعت «حي» بعد بلوغه سن 28 عاما أسئلة الحيرة حين وصل إلى سؤال: هل العالم «شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجودا فيما سلف، ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟». احتار «حي» في أجوبته وضاع بين الحدوث والزمان والعدم فازدادت أسئلته عن الوجود والخلاء فحصل التعارض في حججه وبات يترجح بين أحد الاعتقادين. فهناك استحالة «وجود ما لا نهاية له» وكذلك لا يخلو الوجود من الحوادث «فهو لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث، فهو أيضا محدث» (ص 171). واستغرق «حي» في التفكير عدة سنوات «لا يفهم معنى تأخر العالم عن الزمان» فإذا كان العالم حادث «لا بد له من فاعل يخرجه إلى الوجود، و أن ذلك الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس» (ص172). فالحواس الخمس لا تدرك إلا الأجسام، لذلك «لا بد للعالم من فاعل ليس بجسم» (ص 172).

هكذا وصل «حي» إلى الاعتقاد بوجود صانع للعالم من طريق التجربة والحاجة والتأمل. فحاول بداية توحيد النظريتين عن قدم العالم وحدوثه فوجد أن الطريقين يوصلان إلى «وجود فاعل غير جسم» (ص 174). فالله محرك الأجسام (المادة والصورة) لا يدركه حس، وهو منزه عن صفات الأجسام، وهو علة جميع الموجودات، وهي معلومة له سواء كانت محدثة أو قديمة، و«لولا دوامه لم تدم، ولولا وجوده لم توجد، ولولا قدمه لم تكن قديمة»، فالعالم كله من معلول ومخلوق «لهذا الفاعل بغير زمان» (ص 174 - 175).

بلغت فترة الحيرة سبع سنوات وانتهت عندما بلغ «حي» 35 عاما فوصل إلى معرفة معنى الفاعل المختار (الصانع) من طريق الاكتساب بعد أن تطور وعيه على درجات من الأدنى (المحسوس) إلى الأعلى (غير المحسوس)، متتبعا مسار التحول نحو الكمال والبهاء والقوة والفضيلة، وهي كلها «من فيض ذلك الفاعل المختار»، وهي كلها صادرة عنه، وهو منزه عن النقص وصفاته لأنه الموجود المحض «الواجب الوجود بذاته». وبوصول «حي» إلى المعرفة الإلهية أخذ يترك «العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول» (ص 177).

في هذه المحطة اكتشف «حي» معنى الموت والحياة وفسر سبب موت أمه (الظبية). فالفساد والاضمحلال هي من صفات الأجسام والصانع ليس بجسم بل هو «الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لا سبب لوجوده، وهو سبب لوجود جميع الأشياء» (ص 178).


المعرفة والمشاهدة

بعد وصوله إلى هذه الدرجة من الوعي انتقل إلى المرحلة الأخيرة من تطور المعرفة وهي برأي ابن طفيل الوصول إلى حال المشاهدة، وهي تحصل لمن أقبل على معرفة الكمال فتحصل عنده «لذة لا نهاية لها (...) لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود» (ص 182). فكمال الذات ولذته «إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام» (ص 183). وهذا تحديدا ما يميز الإنسان عن الحيوان. فكل أنواع الحيوانات تسعى إلى تحصيل غذائها وغيره من المحسوسات حتى انقضاء مدتها. ترحل عن الدنيا ولا تعرف الموجود ولا تشتاق إليه. كذلك عالم النبات فأفعاله لا تتعدى الغذاء والتوليد بينما الإنسان يذهب بعيدا في المعرفة والبحث عن الحقيقة وسر الوجود. فالعارف والمعروف والمعرفة، برأي ابن طفيل، هي كالعالم والمعلوم والعلم وكلها لا تتباين في شيء لأن التباين من صفات الأجسام، بينما الشيء العارف هو «أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد، ولا يوصف بشيء» (ص 189). فكل الذوات تتلاشى «إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود» (ص 192).

من صفات الثبوت عند ابن طفيل التنزيه عن الصفات، لأن الصفات تعني الكثرة بينما الحقيقة «ذاته هي علمه بذاته، وعلمه بذاته هو ذاته»، والعلم «الذي علم به ذاته ليس معنى زائدا على ذاته: بل هو هو» (ص 202).


الواحد والكثرة

وصل «حي» إلى هذا المستوى من العلم المعرفي بواسطة الرياضة الذهنية والبدنية (المجاهدة وترويض النفس) فقرر العزلة والانزواء مطرقا عن المحسوسات ومعرضا عن الموجودات، فقعد في مغارته يفكر، وكانت تمر عليه الأيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك حتى غابت عنه كل الأشياء إلا ذاته وصار هباء منثورا ولم يبق «إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود» (ص 204). فذات الحق لا تتكثر بوجه من الوجوه وأن علمه بذاته هو ذاته بعينها.

وعلى رغم غيبوبة «حي» ووصوله إلى وحدة الذات يرفض ابن طفيل في وقت واحد مفهوم الكثرة وفكرة الاتحاد (الحلول الروحي) لذلك بقي «حي» في حال قلق يتردد إيمانه بين الواحد والتعدد. واستمر «حي» على وضعه إلى أن التقى مصادفة «آسال» وكان له 50 من العمر. أحدث اللقاء صدمة نفسية في حياة «حي» تشبه تلك الصدمة التي أعقبت رحيل أمه. طرح موت أمه عليه أسئلة الحياة والموت وسر الوجود وصفات الصانع بينما أثار فيه لقاء «آسال» الشوق إلى معرفة شبيهه الإنسان. فاللقاء أخرج «حي» من عزلته وكشف له علاقات مختلفة. فالإنسان يتخاطب باللغة لا بالإشارة والغريزة ويتكلم المعاني المفهومة وتحكمه الأنظمة.

أراد «حي» التعرف على عالم الإنسان بينما اعتزل «آسال» في الجزيرة هربا من المدينة وحاكمها «سلامان»، فهرب «آسال» من «حي» ظنا منه أنه من العباد بينما لاحقه «حي» لأنه يريد أن يعرف من هو؟

كان «حي» في تلك الفترة شديد الاستغراق في مقاماته ودهش حين سمع «آسال» يقرأ ويسبِّح ويصلي. فهو لا يعرف الكلام ولا القراءة والكتابة واشتدت رغبته إلى المعرفة عندما سمع «صوتا حسنا وحروفا منظمة»، لا تعرفها أصناف الحيوانات (ص 222). وهكذا عاد «حي» إلى العالم المحسوس ورأى أن «يقيم مع آسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه» (ص 223). وشرع «آسال» يعلم «حي» الكلام بالإشارة وعمد «أن يعلمه الكلام والعلم والدين». وشرح «آسال» له معاني الشريعة ولم يرَ فيها ما يخالف «ما شاهده في مقامه الكريم» (ص 227).


الدين والفلسفة

آمن «حي» وصدق وشهد بالرسالة السماوية لكنه تعجب من مسألتين: الأولى التجسيم، والثانية إباحة المعاملات إلى جانب العبادات، فعزلة «حي» وعدم صلته بالناس واختلاف حاجاتهم وتنوع مطالبهم جعله يطرح تلك الأسئلة على «آسال» وأصر عليه أن ينقله إلى الجزيرة المأهولة حتى يتعرف على حياة الناس واجتماعهم وأساليب معاملاتهم.

انتقل «حي» مع «آسال» إلى الجزيرة المأهولة وحاول تعليم الناس أسرار «الحكمة الإشراقية» وعندما ترقى عن الظاهر قليلا بدأ الناس يقبضون منه ويبتعدون عنه فاكتشف أن مشروع إصلاحهم غير قابل للتطبيق «فيئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم» (ص231) ورأى أن حظ «أكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة إنما هو في حياتهم الدنيا» (ص 232). وقرر «حي» العودة إلى جزيرة الوقواق برفقة «آسال» وعبدا «الله بتلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين» (ص 234).

خلاصة قصة ابن طفيل تشير إلى عدم قناعته بالجهود المبذولة للتوفيق بين الشريعة والحكمة، والإنسان يستطيع أن يتوصل إلى الإيمان من دون وسيط ومن طريق التجربة والممارسة. وبرأيه أن الجمهور يميل إلى الإيمان بالمتشابهات والتسليم لها، والإعراض عن البدع والأهواء، والاقتداء بالسلف الصالح، وبالتالي لا سبيل للحكمة إليه، فاقتنع أن «كل حزب بما لديهم فرحون» وأن الناس على درجات من تطور المعرفة ويجب ترك الأمور على حالها لأن كل محاولة إصلاح أو توفيق بين الدين والفلسفة سيكون مصيرها الفشل. وخير الأمور عدم تأويل الظاهر بالباطن لأن ذاك يفسد الجمهور ويعطله عن الإيمان ويزرع الشك في نفسه ويزعزع قناعاته.

ستترك هذه الأفكار تأثيرها على آراء ابن رشد الحفيد الذي سيتهم الإمام الغزالي في كتابه «تهافت التهافت» بإفساد إيمان العامة لكثرة تأويلاته. إلا أن ابن رشد لم يقتنع بتجربة ابن طفيل ونصيحته بعدم جدوى التوفيق بين الشريعة والحكمة فأقحم نفسه في المسألة وفشل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2576 - الجمعة 25 سبتمبر 2009م الموافق 06 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً