تقرأ السيرة الذاتية «ترميم الذاكرة» لحسن مدن فتأخذك الأسئلة إلى حيث مرّ القلب ذات سانحة، فتجد أن الولع بالمكان ما هو إلا شغف بزمن مضى ومكان آخذ في التحوّل والتبدل كلما مرت عليه مسحة الزمن، فتتساءل عن اللعب في الفسحة ما بين السرد والحدث فتخمن أن المسافة هي السر وأن مبارحة سريعة للمكان هي التي غيبت ملامح الحدث، وجلجلت بالشخوص سريعا عن الحضور فتتساءل هل في الأثر مشروع قادم فتجد أن فتنة ترميم الذاكرة تستدرج مدن لعمل روائي مازال لم يتشكل بعد، ويبوح لك أنه من المبكر كتابة سيرة سياسية.
مثلت التنقلات محطات مفصلية في صناعة تحولات «حسن مدن» ما أهم هذه المحطات، وما أثر المكان في صناعة الذات؟
- هذه التنقلات جاءت في إطار غربة طويلة، ممتدة لأكثر من ربع قرن، هي غربة قسرية إجبارية، لم تكن اختيارية، بسبب الظروف السياسية التي مرت بها البحرين، في تلك الفترة، حيث كنت مقيماَ في الخارج، وغير قادر على العودة إلى الوطن، بسبب قانون أمن الدولة، وبسبب التحولات والتبدّلات السياسية في العالم العربي، وفي البلدان التي عشت فيها، وجدت نفسي أتنقل من بلد إلى آخر، بحكم هذه المتغيرات غادرت البحرين شابا يافعا للدراسة في جامعة القاهرة، ثم أبعدت من هناك لأسباب سياسية، وبسبب نشاطي السياسي حيث كنت مطلوبا للسلطات الأمنية في البحرين، ولكن بعض الملابسات أدّت إلى تمكّني من مغادرة القاهرة إلى العراق، حيث مكثت فيها سنة تقريبا، وأيضا كانت الأمور في العراق تسير في منحى سليبي فعندما اشتد عود الدكتاتورية وبدأت تضيق على القوى الديمقراطية الأخرى، ذهبت إلى لبنان، وكانت لبنان تعيش أجواء حربها الأهلية، ولكن رغم ذلك كانت هناك فسحة للعيش في هذا البلد فعشت هناك نحو خمس سنوات، ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982م واحتلت العاصمة بيروت من قبل القوات الإسرائيلية، فوجدنا أنفسنا أيضا مكرهين على مغادرة بيروت، وبعد الإقامة خمس سنوات في دمشق برغبة مني سافرت إلى موسكو لمواصلة دراستي العليا، وعدت من موسكو مباشرة إلى مطار البحرين الدولي، ولم يسمح لي بالدخول وأبعدت إلى دولة الإمارات، فكما ترى معظم هذه المحطات لم تكن اختيارية لم تكن بإرادتي، ولو سارت الأمور في مجرى آخر لأقمت إما في البحرين نفسها وطني أو في بلد آخر بعينه، ولكن هكذا جرت الأمور، بطبيعة الحال نشأت بيني وبين الأماكن التي عشت فيها علاقات متفاوتة متضاربة في المشاعر في مقدار الألفة في مقدار التكيف معها وهذا ما حاولت أن أعبر عنه في الكتاب.
يشعر قارئ كتاب ترميم الذاكرة بأنه أمام تجربة يحاول فيها كاتبها أن يعلل أمر الحنين ويلاحقه، ويتابع الإحساس بتبدّده حتى آخر لحظة، ما سر الولع بالمكان ومحاولة تأويل الحنين إليه؟
- يبدو لي أن مصدر هذا الحنين ناجم عن فقدان المكان، فعندما تكون في المكان تنشأ بينه وبينك علاقة مختلفة، ولكن عندما تشعر أنك مجبر على أن لا تكون في هذا المكان وأنت تحبه ويعنيك خاصة إذا كان هذا المكان هو الوطن فبطبيعة الحال تنشأ بينك وبين هذا الوطن نوع من النستولوجيا، نوع من الحنين والحنين في تقديري مرض لأنه يعبّر عن رغبة غير متحققة في الإنسان، وكان تقديري أنه بمجرد عودتنا إلى الوطن سنشفى من هذا الحنين لأن سببه قد زال فاكتشفت أن الحنين ليس فقط إلى المكان، وإنما إلى الأزمنة التي ارتبطت في ذاكرتنا ونحن بعيدون عن المكان، هو حنين للفترة الزمنية التي كان فيها هذا المكان يمثل في أذهاننا شيئا مختلفا مفتقدا فعدنا إلى نفس المكان، ولكنه اختلف والزمن تغير.
ولذلك تعود للسهلة إلى الأماكن فتوصّف البيت المكان بشكل عام ولكنك لا تجده كما كان ربما لا تجد فيه ما كنت تجده.
- السهلة التي تحدّثتُ عنها في الكتاب ليست السهلة الموجودة الآن، هذه هي الصدمة الكبرى التي وجدتها عندما عدت إلى البحرين لأنني غادرت البحرين وعمري أقل من عشرين سنة وهذا عمر ليس كافيا لأن يرسخ ذاكرة عند الإنسان، عشت طوال هذه السنوات خارج البحرين بالصورة الذهنية التي للمكان عندي حول السهلة، فلما عدت وجدت أن كل الأماكن الحميمة بالنسبة لي لم تعد قائمة أو اختفت أو تغيرت معالمها.
ولذلك يبدو أن المكان لديك كان أكبر، كان أوسع، كان أكثر ظلمة دائما.
- كان أكثر رحابة وأكثر اتساعا وأكثر حميمية، هكذا كانت صورة المكان في ذهني، لما عدت لم أجد كثيرا مما كنت أتصوّره.
رغم ظهور موهبة الكتابة مع بواكير العمر إلا أنك اخترت الحقوق دراسة وتخصصا لماذا، وكذلك اخترت لك صورة السياسي كرئيس جمعية سياسية هل تدفع بالأدب بعيدا دائما؟
- السياسة ليست خيارا طارئا، السياسة خيار منذ مطلع الشباب وحتى منذ الصبا المتأخر هي خيار في الحياة، الأدب هو أيضا أحد خياراتي الأساسية، لم أجد التعارض الكبير بين أن يكون الإنسان سياسيا وأن يكون مثقفا أو أديبا إلا من زاوية واحدة هي زاوية أن الأدب والإبداع بحاجة إلى تفرّغ أوسع وأكبر، وهذا لا يتيحه العمل في السياسة، هذه هي الإشكالية، أما من حيث المبدأ فأنا لا أجد تعارضا بين الأمرين، ربما مصدر الصعوبة هو كوني في موقع قيادي في العمل السياسي، وهذا أيضا ليس خيارا نهائيا في الحياة، فنحن جمعية سياسية ديمقراطية تتبدّل فيها القيادات، وبالتالي هي مرحلة أما بالنسبة لدراسة الحقوق فهي ليس خيارا، كنت أريد أن أدرس الإعلام ولكن لم أتوفق في الالتحاق بكلية الإعلام فوجدت فرصتي في كلية الحقوق، وعليّ أن أعترف وقد أشرت لذلك في الكتاب بأني لم أحب الحقوق أساسا ولم أمارسها رغم أني تخرّجت من كلية الحقوق.
ثمة اشتغال سياسي وكتابة ثقافية وأدبية أيهما يمنح نفسك أفقها الذي تجده فيها أكثر؟
- أعتقد أن السياسة أغنت تجربتي الحياتية والثقافية، وعمّقت مضمونها الفكري، ووسعت آفاقي، لولا التجربة السياسية أعتقد أن ما أكتبه سيكون أقل غنى وأقل ثراء، أنا أعتبر الكتابة الثقافية هي مجالي الحيوي الذي أشعر أني لحد الآن لم أعطِ فيه ما أرغب، وهذا ما أتمنى أن تتاح لي فيه الفرصة أن أعمله فيما تبقى من الحياة، ولكن كما أشرت السياسة والخيار الوطني أثرى تتجربتي وعمّقها.
نلت جائزة تريم عمران في الصحافة العربية على مستوى المقال، هل تجد كاتبة المقال حقها على المستوى الأدبي نصا أو كنوع أدبي شأنه شأن الأجناس الأخرى في سياق القراءة والتحليل والدرس الأدبي والاهتمام بها بشكل عام؟
- كبار النقاد يعتبرون المقال الصحافي جنسا أدبيا مثل الأجناس الأخرى مثل القصة القصيرة، والرواية والشعر، وعلى من يكتب المقال أن يتمتع بموهبة كتلك التي يتمتع بها الموهوبون في المجالات الأخرى، ولكن أشعر أن المقال الصحافي بشكل عام لم يعد في الكثير من نماذجه يلبي حاجات الإبداع التي تُفترض في كاتب المقال أن يكون عليها، وأن يكون على درجة من الخبرة والمعرفة والوعي بما يمكنه من أن يجعل من هذا المقال جسرا للمعرفة بينه وبين القارئ.
شرعت في كتابة العمود الصحافي في صحيفة الخليج وعمّرت طويلا في كتابة العمود وطال بك الأمد، فأمضيت أطول فترة يقضيها كاتب عمود في الصفحة الأخيرة في صحيفة الخليج ما سر هذا التعمير؟
- هذا سؤال يوجه للجريدة، بالنسبة لي شخصيا أنا أشعر أنه لو عقدت مقارنة بين وضعي الآن وبين بدايتي في كتابة المقال لقلت أشعر أنني الآن أكثر لياقة في كتابة هذا المقال فالعبء الذي كنت أشعر به في بداية تجربتي مع المقال خف كثيرا عما كان عليه، وأعزو ذلك إلى الخبرة والمراس وإلى ما ينجم عنها من لياقة أكثر، أما الفترة الطويلة التي مكثت فيها في كتابة المقال في الصفحة الأخيرة في الخليج فهذا أمر عائد لتقدير الجريدة نفسها.
تكتب أعمدتك بمزاج رائق وبأفق عام جدا وتحرص على النبرة الإنسانية كما تشير بينما لا تنشغل بالتفاصيل أو تؤثث بها كتابتك إلا قليلا، ما معادلتك للإمساك بالقارئ؟
- المقال اليومي خاصة لا يمكن أن يكون على سوية واحدة فطبيعة الحال هناك تفاوت، فأنت عندما تكتب كل يوم فبطبيعة الحال يمكن أن يكون عندك مقال أقل من المستوى، وتكون هناك مقالات متميزة وهذا طبيعي في عمل يومي، أحاول أن يكون في كتابتي للمقال الصحافي عدة مستويات هناك مقالات مباشرة تهتم بالحدث وتؤثث له خاصة المقالات انشرها في البحرين لأني مشتبك مع تفاصيل الحياة السياسية واليومية في البحرين، وهناك نوع من الكتابة التأملية الكتابة المعرفية التي تتوخى التأسيس معرفة وفكرا وتقدّم مادة ولو بسيطة ولو محدودة المساحة للقارئ، تنبهه إلى بعض الأفكار، هناك مستويات مختلفة في كتابة المقال لا اعتبر مقالاتي كلها على نفس االسويّة ولكن بشكل عام أنا حريص على التجويد، على اللغة واختيار المفردة والتكثيف والتخلص من الترهّل ومن المفردات غير الضرورية التي تكرّر نفسها ولا تقدم إضافة للمقال، وهذه مسألة نشأت مع التجربة، قدر الإمكان يتخلص المقال من التكرار والزوائد والاستطرادات التي لا ضرورة لها.
ولذلك تشير إلى أنك أمسكت بالمعادلة المهمة حينما اكتشفت النبرة الإنسانية العامة التي تستطيع بها أن تصل إلى قراء أكثر.
- النبرة الإنسانية كما تسمّيها هي نتيجة القراءات الأدبية ونتيجة التجربة الشخصية المباشرة في الحياة، وما حفلت به من محطات، وهي سر الصلة مع القارئ لكي تكون مقبولا من القارئ يجب أن يجد في كتابتك شيئا مختلفا غير مباشر.
تكتب وكأنك تحاول الإمساك بالأشياء أو بذكراها على الأقل هل قرّت نفسك بعد «ترميم الذاكرة» في أن ما أردت الإمساك به قد تم وأن الكتابة قد رممت ما خرّبه النسيان؟
- سؤال جميل، الكتاب أزاح عنّي ثقل الذكرى إلى حدود كبيرة، وهناك الكثير من التفاصيل والوقائع والأحداث والمشاعر لم تجد مكانها في هذا الكتاب، بعضها فاتني بشكل مباشر وصريح تذكرته بعد أن أنجزت الكتاب، وبعضها أقصيته بوعي على أمل أن يكون مادة لكتاب آخر، وخاصة عندما أكتب سيرة بالمعنى المباشر للسيرة عندما أتحدث عن جميع التفاصيل وأركز بشكل خاص على التجربة السياسية التي لم تأخذ حقها في هذا الكتاب، بقرار ورغبة مني لأنني شعرت بأنه من المبكّر الآن عمرا وتجربة أن أكتب هذه السيرة.
في «ترميمك للذاكرة» أحيانا تغيب الأحداث وتستعيض عنها بالكلام عن الزمن وأثره، بقايا الذاكرة والحنين للمكان، للشخوص، وتبدل المكان وتحوله، وريثما تسرد أحداثا قليلة تعود مرة أخرى للتأويل وقراءة ما وراء الحدث من خواطر، انطباعات، لمحات سريعة، ولا يحضر الحدث إلا قليلا، هل هذا بفعل الزمن والمساحة بين زمن السرد وزمن الحدث، هل هذا محاولة للتشويق، هل هي لمحة أسلوبية، هل هذا راجع لعدم مقامك في الأمكنة إلا قليلا؟
- أنا أعتقد أنه من بين هذه الأسباب والخيارات التي ذكرتها أن الأمر يتعلق باللمسة الأسلوبية فهذا «استايل كتابة» الأحداث ربما تكون في هذا الكتاب ليست قليلة حقيقة الأمر، ولكن ربما لم تأخذ حقها كما يجب، ولم أدخل في تفاصيلها بالطريقة التي يتوقعها القارئ وسأكشف سرا فأنا عندما كتبت مسودة الكتاب الأولى كتبت الأحداث من دون التأملات ومن دون التداعيات والأفكار بشأن الزمن، المكان، الحنين إلى آخره، وهذه أدخلتها في مرحلة لاحقة عندما أعددت الكتاب في المرحلة الأخيرة قبل الدفع به إلى النشر أدخلت كثيرا من هذه الفقرات التي تعمّق الفكرة وتضفي عليها الأبعاد الإنسانية الفكرية، لذلك لم يكن في ذهني وأنا أعد الكتاب أن أكتب سيرتي الذاتية، كانت هناك أمور تثقلني وأريد أن أخففها، الكتاب أقرب من حيث التصنيف الأجناسي إلى السيرة ولكنه أيضا ليس سيرة بالمعنى المتداول هو أقرب إلى التأملات والتداعيات الإنسانية المبنية والمنطلقة من تجربة شخصية في الحياة.
يحضر الأخ ويحضر الأب وتحضر الأم وشغفك بمحاولة اللقاء بهم في غربتك الطويلة وتحضر أيضا الزوجة ولكن هذا الحضور سريع ما سر ذلك، وهل في الأثر مشروع كقبل؟
- هذا على صلة بسؤالك الأول فالأحداث لم تأخذ حقها، وهي كثيرة والشخوص ليسوا قليلين، ولكن لم يأخذوا حقهم من الحضور. وهناك تجارب إنسانية كبيرة من الممكن أن تكون مادة لكتب أخرى بعد عمر طويل. أما كتابة سيرة التجربة السياسية فلم أسعَ لذلك الآن لأنني لا زلت في إطار عيش التجربة وأعتقد أن العمر مبكر، وهذه مرحلة لاحقة وهناك مشاريع أدبية أيضا تنطلق من التجربة الشخصية.
«ترميم الذكرة» هل هو مشروع رواية جاء في شكل سيرة أو لماذا أتى هذا الكتاب في شكل سيرة ألا تعتقد أنه لو قدّر لهذه السيرة أن تكتب كرواية لأحدثت ردة فعل وصدى آخر؟
- فكرة الرواية مهيمنة على ذهني، ولكنها تحتاج إلى تفرغٍ جديٍ لأنها مشروع معماري كبير لا أعتقد أنني لو كتبت السيرة الذاتية على شكل رواية ستحقق الأثر الذي حققه الكتاب، أحد مصادر جاذبية الكتاب كونه يتصل بالتجربة الشخصية المباشرة وبشكل صريح من دون تزييف ومن دون تدارى وراء الشخوص؛ لأنني أتحدّث عن أحداث وقعت لي شخصيا والحياة ممتدة وواسعة وفيها كثير من التفاصيل التي لم ترد في هذا الكتاب، ويمكن أن تشكّل مادة لعمل روائي أو أكثر، وهذا ما أعمل عليه وما أتمنى أن أنجزه، كثير من الذين قرأوا الكتاب أو يتابعون مقالاتي عندهم هذا السؤال لماذا لا أغامر بكتابة رواية، وأرغب حقيقة في أن أفعل ذلك وأسعى إليه
هل نتوقع أن السيرة الذاتية المقبلة أو السيرة السياسية التي تحدثت عنها أنها ستأخذ شكل الرواية، إذ إن البعض حاول أن يكتب ذلك هربا من بعض التفاصيل في شكل رواية؟
- لو قدر لي أن أكتب تجربة العمل الحزبي والسيرة السياسية سأكتبها بشكل مباشر كوقائع وأحداث؛ لأن هذا ضروري من باب الأمانة التاريخية ومسئوليتنا كجيل تجاه الأجيال المقبلة أن نروي لها ما قمنا به بسلبياته وإيجابياته، ونقدم هذه التجربة وهي تجربة جيدة ولكنها مؤلمة وقاسية وفيها أخطاء أيضا وعثرات، ويجب أن يقال ذلك وهذا ما أتمناه، المشروع الأدبي مشروع مواز. مشروع آخر سأعمل عليه بشكل مستقل لا ينحصر في التجربة الشخصية ولا على الذاكرة فقط، وإنما ستأخذ المخيلة ووسائل المعرفة الأخرى دورها في الكتابة.
العدد 2575 - الخميس 24 سبتمبر 2009م الموافق 05 شوال 1430هـ