«في أعماق الحزن يوجد الجمال وتتحول الدموع إلى لآلئ، لابد أن ننظر إلى ابعد من إشكاليات الحزن التقليدي، ففي هذا الحزن محبة تجمعنا وتعطينا بعدا إنسانيا وتعطي أرواحنا تجربة فريدة في ممارسة الحزن من خلال المحبة الدائمة التي يتشابك ويتداخل فيها الإنسان فينا في تجدد أبدي».
هكذا بدأت وزيرة الثقافة والإعلام رئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم بن محمد للثقافة والبحوث الشيخة مي بنت محمد آل خليفة كلمتها التي رثت فيها عضو أسرة أمناء المركز الفنان التشكيلي البحريني أحمد باقر في ذكرى رحيله الأولى، وهي التي جاءت كأولى فقرات الحفل الذي أقامه المركز بمناسبة مرور ذكرى رحيل باقر الأولى.
باقر الذي سيظل، بحسب الشيخة مي «حاضرا في فنه وفي حبه لكل جميل»، سيحتل اسمه موقعا دائما على أجندة برنامج المركز الثقافي، إذ أشارت الوزيرة إلى اعتزام المركز «جعل موضوع الاحتفالية حدثا يتكرر كل عام» مضيفة بأنه «ستكون هناك محاضرة سنوية في كل موسم تحمل اسمه وتقدم كل ما هو إبداعي في المجالات التي أحبها لذلك فنحن على موعد معه في كل عام» .
من جانبه قال الشاعر والباحث اللبناني شربل داغر، الذي كان صديقا للفنان، في مداخلة له «إن البحرين كانت، ولا تزال، مؤهلة، وأكثر من جيرانها، لأن تطلق كلية أو برامج أكاديمية للفنون التشكيلية، وهي البادئ قبل غيره في الخليج بعمليات التعليم والتربية، وعلى أكثر من مستوى دراسي، مضيفا بأنه ما «يحز في نفسي أن يتأخر البحرين عن الركب، فيما هو يتمتع بمواصفات لا تتوافر لغيره، ولا سيما في وجود حركة فنية نشطة وبيئة فنية مناسبة وتعليم جامعي راق ومتجدد».
وأضاف داغر أن البحرين «نوَّعَ في كليات التعليم التي انتدب إليها طلابه المميزون، أو ذهبوا إليها بأنفسهم، وهذا ما أجده في سيرة فنانين عديدين، إذ إنهم درسوا سواء في فرنسا أو في بريطانيا أو في الولايات المتحدة الأميركية أو في القاهرة أو في بغداد... وهو تنوع محمود، إذ يفك الأسر الثقافي الموروث من الاستعمار، ويتيح للحركة الفنية تنوعا خصبا ومنتجا في أصولها ومرجعياتها».
هذا التنوع المحمود هو ما استوقف داغر في سيرة باقر الدراسية وفي سيرة غيره من فناني البحرين.
ولعل ذلك لم يكن الأمر الوحيد الذي استوقف داغر في سيرة باقر، بل إن أول ما لفت نظره، كما يسرد داغر خلال مداخلته «إقباله على الرسم بقلم الرصاص، وهو ما كان قد اختفى منذ عقود من عدة التشكيليين، فكيف في المسابقات الفنية»
كان ذلك خلال أول لقاء لداغر مع باقر، وكان لقاء مع أعمال باقر ومع لوحة عازف عود كانت السبب في لقائهما الشخصي. كان ذلك في المعرض السنوي السادس والعشرين للفنانين التشكيليين البحرينيين، في العام 1997. كان داغر مُحكِّما فيما كان باقر فائزا بجائزة المعرض الكبرى «الدانة».
في لوحة عازف العود التي فاز فيها باقر «عالج باقر الرسم بضربات تتشبه بضربات العازف على عوده: ضربة مركزة ومتلاحقة، هي وغيرها، في تتابعٍ تُلاحق اليدُ فيه النَّفَس».
وواصل «يُبطل باقر ما في الرسم من وصف، من جمود، لكي يوجده، لكي يبنيه، في الحركة الدينامية التي تُخرج الصورة الثابتة -والفنون التشكيلية صورة ثابتة في أساس بنائها- من ركونها إلى ألفة كيانها صوب صورة حركية».
وبحسب داغر تكشف لوحات باقر عما للقلم من إمكانات تشكيلية ولونية في عمل باقر. فهو يبني خطا، خطوطا، بل تدرجات خطية، ما يُدخل الرسم في دينامية شكلية غير مسبوقة، إذ ما عاد القلم يرسم خطا، بل «مناخا»، وهو ما للأصباغ اللونية من قدرة على فعله، على توليده: بات القلم، وفق هذه الطريقة في العمل، وفق هذا الإنشاء، أقربَ إلى الملوانة، إلى حاملة ألوان المصور. وبات الرسم شبيها بعود ولكن بوتر واحد، على أنه كاف لأوسع الأنغام وأعذبها.
داغر الذي تحدث عن الفنان الراحل كما عرفه هو، وصفه بالرائد «الذي سيظل علامة منيرة في مستقبل الثقافة» وبأنه صاحب «نهج تأسيسي، ذو علامة مزدوجة، بل مركبة: تأهيل الفنان وتأهيل الفن في الوطن. وهو ما يلحظه الدارس منذ موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، حيث كان: «أبحاث ودراسات في الفنون وتاريخها في البحرين».
بعدها توقف داغر عند كتاب الفنان الراحل «مجيء الفن بمفهومه الأوروبي إلى العالم العربي»، الذي تم توزيعه في نهاية الاحتفالية، والذي وصفه داغر بالكتاب المرجعي «يحلو لي، في هذا المقام، التوقف عند نقطة بعينها تطرق إليها باقر في هذا الكتاب، وهي التنبه إلى لوحات غير معروفة للتصوير في الخليج، ولا سيما التصوير على السفن.
ما يعنيني من إثارة هذه النقطة، هنا، هو التنبه للمسألة التالية، وهي رصد تجليات الفن في التاريخ المحلي وفق منظور أوسع مما تقوم به دراسات الفن اليوم: فهي لا تعبأ، على سبيل المثال، بما انتبه إليه باقر في كتابه، وهو وجود تصوير «شعبي» (إذا جازت التسمية)، ولفنانين مغمورين، في البحرين منذ مطلع القرن العشرين، وقبله ربما، أي قبل التاريخ «الاحترافي» للتصوير فيه. ومن يعود إلى هذه اللوحة يتحقق من تشابهها مع فن التصوير على الزجاج، أو مع «فن المثبت» (كما يسمى في تونس)، حيث نجد في هذه اللوحة المسعى الفني عينه، ومن تجلياته إقبال الفنان على إيراد أسماء من يظهرون في اللوحة، وهو ما أقبل عليه الفنان البحريني فيها إذ كتب اسم: «القائد» تعيينا لموقعه في السفينة، ولأهميته من دون شك.
داغر يؤكد للحضور في نهاية حديثه أن غياب المبدعين محزن «لكننا نتأكد من أن مائدتهم منصوبة أبدا، وهي أرحب من أن تسعها صالة، أو بيت، أو حتى متحف؛ هي تتجدد، بل تولد من جديد في عيون من يروا إليها: ففي كل ارتعاشةِ عينٍ ميلادٌ جديد لانفعال من الشراكة الجمالية، التي تبقى أصعب من أن تحد».
العدد 2575 - الخميس 24 سبتمبر 2009م الموافق 05 شوال 1430هـ