العدد 2574 - الأربعاء 23 سبتمبر 2009م الموافق 04 شوال 1430هـ

خطاب أوباما وسباق الكلام والفعل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

العالم ينتظر خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة. فالخطاب الأول بعد دخوله البيت الأبيض يتوقع أن يتضمن مجموعة مواقف تميز عهده عن سلفه جورج بوش باعتبار أن الولايات المتحدة أقدمت على مراجعة حساباتها في الداخل ووجهت للعالم رسالة اعتذار عن تلك التجاوزات التي حصلت على مختلف الأصعدة.

فقرات الخطاب قد تكون عامة وغير قادرة على تلخيص كل المشكلات التي تعترض السياسة الأميركية. إلا أن مضمون الفقرات قد يكون كافيا لتطمين العالم بوجود نوايا حسنة تريد إعادة النظر ببعض الملفات في إطار التوجه نحو إعادة الاعتبار للتعددية الدولية ومفهوم الشراكة ومعنى الاحترام المتبادل. فهل أصبحت الولايات المتحدة جاهزة لاتخاذ هذه الخطوة الحاسمة أم سيبقى الرئيس يحلق منفردا خارج الضغوط التي تمارس ضد إدارته من الداخل؟

الاحتمال المرجح أن أوباما لم ينجح حتى الآن في تخطي العقبات التي تعرقل نشاطه وتذليل تأثير «اللوبيات» على توجهاته التي لاقت القبول والاحترام من مختلف عواصم العالم. مشكلة أوباما كانت ولاتزال داخلية وهي تتمثل في مجموعة حواجز ومطبات تعتمد على قوى صاحبة مصلحة في منع الرئيس من مواصلة السير منفردا خارج السرب. اللوبيات المحلية مشكلة حقيقية لأنها لا تمثل أجهزة ضغط فقط وإنما أيضا شبكات من المصالح الموصولة بالشركات والمصارف والأسواق والمؤسسات والتجمعات (الكارتيلات) والمواقع الاحتكارية. فاللوبيات ليست هيئات إعلامية ومراكز بحوث واستطلاع وإنما هي في تكوينها قنوات اخطبوطية تتحكم بمصادر القرار والثروة ومنها تتشكل الروافد المالية للخزانة التي لا تستطيع الدولة التحرك من دون استشاراتها والعودة إليها.

كل خطوة أميركية يريد أوباما اتخاذها تحتاج إلى موافقة من القوة الاقتصادية التي تتأثر بها. فإذا أراد الرئيس خفض موازنة الدفاع فإنه لا يستطيع أن يبادر باتخاذ القرار قبل العودة إلى مؤسسات التصنيع الحربي. وإذا أراد تصحيح الضمان الصحي فإنه لا يقوى على تنفيذ برنامجه من دون أخذ مصالح مصانع الأدوية وشركات التأمين الخاص في الاعتبار. حتى القضايا الدولية فهي محكومة داخليا بمجموعة ارتباطات. فالحروب اقتصاد. وبرامج التنمية اقتصاد. وخطط مساعدة الدول الفقيرة اقتصاد. وتعديل العلاقات والصداقات والعداوات اقتصاد. وكل هذه «الاقتصادات» مترابطة وتشكل شبكات من «اللوبيات» التي تتوافق على حماية المصالح من خلال قنوات نفوذ تقليدية موجودة في الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

معركة أوباما كبيرة وخطيرة وهي لا تقتصر على تنظيم علاقات أميركا الدولية مع الخارج وإنما تبدأ في الداخل، وبقدر ما يحقق الرئيس نجاحات في تطويع نفوذ «اللوبيات» في الكونغرس والإدارة والمؤسسات الثابتة (البنتاغون وأجهزة المخابرات) يستطيع التقدم نحو الواجهة الخارجية وعرض تصوراته المخالفة للعهد السابق على العالم.

أوباما حتى الآن لم ينجح في كسر أو على الأقل تعديل منظومة العلاقات الداخلية التي أظهرت خلال الشهور الماضية قدرة خفية على الممانعة والتعطيل. الكلام أحيانا يسبق الفعل وأحيانا أخرى الفعل يتسابق مع الكلام. ولكن أوباما في حال انفصام بين الكلام والفعل. ولهذه الأسباب المحلية يرجح أن يكون خطاب أوباما الأول من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة مجموعة فقرات تتحدث في العموميات وستكون أقرب إلى الأمنيات أكثر من خطة مشروع قابل للتنفيذ.


المشكلة داخلية

مشكلة أوباما ليست في إقناع العالم بتوجهاته الجديدة وإنما في أخذ براءة ذمة من تلك «اللوبيات» التي تراقب وتضغط ولا تتردد في التهكم على سياسته ووصفها بالمثالية والساذجة والضعيفة في الخبرة ولا تمتلك تلك الدراية بالشئون الدولية ومصالح الأمم العليا. وهذه المشكلة التي أخذت تتمظهر على أكثر من صعيد يرجح أن تلجم الرئيس وتمنعه من التحليق عاليا وتشوش رغبته الضمنية في «التغيير».

الملفات الوحيدة التي يستطيع أوباما التحرك نسبيا في مجالها الخاص هي تلك المرتبطة به مباشرة وتمثل وجهة نظر مضادة للإدارة السابقة. أوباما مثلا يستطيع اقتراح إجراء مراجعة دفاعية شاملة بشأن إحداث خفض في ترسانة الولايات المتحدة النووية. وأوباما يستطيع أيضا التخلي عن مشروع درع بوش الصاروخي في أوروبا الشرقية. ويمكنه أن يطرح تصورات عن المساعدات العينية للدول المحتاجة. كل هذه الملفات سهلة لأنها تتصل بالموقف الأميركي الخاص والدول الأخرى غير معنية بها.

مشكلة أوباما تبدأ حين يتعرض إلى ملفات متداخلة وتشترك الدول الكبرى في معالجتها. الملف النووي مثلا يحتاج إلى موافقات أكثر من طرف دولي للبحث في أوراقه. وملف الطاقة يحتاج أيضا إلى تفاهمات دولية للسيطرة على أسواقه وأسعاره. وملف النقد يتطلب حوارات بشأن احتواء تضخمه أو تداعي أسواقه. حتى الملفات الإقليمية لا يمكن أن تتحرك في وسطها الولايات المتحدة منفردة من دون مراجعة الدول الأخرى التي تعتبر نفسها قوى مشاركة في صنعها أو تفكيكها.

ملفات القوقاز تحتاج إلى تفاوض مع روسيا الاتحادية. ملفات حوض قزوين تتطلب إعادة نظر في خطط تعامل الدول الواقعة على شواطئه والشركات المنتجة (المستخرجة) للنفط. ملفات جنوب شرق آسيا وصولا إلى كوريا الشمالية تقتضي التفاهم مع المحيط الجغرافي قبل اتخاذ خطوة حاسمة. كذلك ملفات غرب آسيا وتلك الأزمات الواقعة على خط «طريق الحرير» وصولا إلى فلسطين.

هناك مسافة سياسية/ مصلحية تفصل الملفات التي تخص استراتيجية الولايات المتحدة عن تلك التي تتشارك في صنعها مجموعة قوى دولية أو إقليمية. فالأولى سهلة نسبيا لأنها تتعلق بتوجهات الإدارة الأميركية. أما الملفات الثانية فإنها صعبة بالمقارنة لأنها تحتاج إلى مقاربة دولية تعكس وجهات نظر وتوجهات سياسية ومصلحية ليست بالضرورة أن تكون متطابقة مع رؤى الرئيس الأميركي.

التحديات التي تواجه أوباما كثيرة فهي تبدأ من الداخل وتتدحرج إلى الخارج. وهذا الأمر يمكن ملاحظته من خلال رصد الارتباك الذي أصاب الإدارة حين باشرت خطوات الاتصال بشأن تفكيك العقبات التي تواجه مفاوضات التسوية في «الشرق الأوسط». فهذا الملف الكبير ليس أميركيا ولا يتوقف على الجانب الإسرئيلي وإنما يتألف من مجموعة أوراق تتداخل إقليميا ودوليا ما يعني أن أوباما يحتاج إلى تفاهمات تضبط الأزمة تحت سقف رؤية يطمح أن تكون مغايرة عن توجهات سلفه بوش.

خطاب أوباما الذي ينتظره العالم لن يكون على سوية التوقعات. فالفضاءات الدولية تبدو غير مناسبة للتوجهات التي يطمح الرئيس الأميركي في التعبير عنها لأن الكثير من الملفات محكومة بمصالح لوبيات الداخل وهي لا يمكن أن تلقى التجاوب من الخارج قبل تقديم التنازلات وإقناع القوى الدولية بوجوب التفاوض. وبسبب تلك الحواجز التي تكشف عادة مدى قوة الرئيس الأميركي سيستمع العالم إلى محاضرة فكرية تتضمن فقرات إنسانية وشفافة وجميلة ولكنها تفتقد إلى آليات ميدانية تستطيع تحويل الفكرة إلى واقع. فالرئيس الأميركي ليس قويا إلا بالحد المسموح بالتحرك على هامش المصالح. وأوباما القوي في رؤيته وتصوراته المتسامحة لا يقوى على تجاوز تلك العقبات والمطبات لأن المهم في النهاية ليس القول وإنما القدرة على تحويل الكلام إلى أرقام والأرقام إلى وقائع ملموسة. وهذه قصة طويلة لا تختصر في خطاب منبري.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2574 - الأربعاء 23 سبتمبر 2009م الموافق 04 شوال 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً