تزداد يوما بعد يوم قناعة المؤرخين والباحثين الآثاريين أن الحضارة الدلمونية، وهي معاصرة لأولى الحضارات البشرية، لابد أن تكون قد ملكت الكثير من القوة، ما جعلها متمكنة من التفاعل الحقيقي مع تلك الحضارات، بل تكون فاعلة بقوة للربط بين حضارتي السند ووادي الرافدين، كما مرت الحضارة الدلمونية بإرهاصات من أجل تكوين ثقافة تميز الدلمونيين، وتمتلك الأسس الأولى للنظام الحضاري، كالثقافة الدينية والثقافة التجارية، والزراعية، والملاحية، وغيرها من أسس نشوء الحضارة في أية بقعة على الأرض، وفي هذا الصدد يقول نائب رئيس البعثة الدنماركية جيفري بيبي في كتابه «البحث عن دلمون»: «لقد توصلنا إلى حقائق مذهلة عن دلمون ودورها الحضاري في هذا الجزء الهام من العالم، في منتصف طريق التجارة الدولية القديمة بالخليج العربي، وذلك في الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد، ومميزات هذه الحضارة من عمارة وصناعة، وفن وفكر، وأختام متميزة وفخار، ولنضع البحرين والخليج على خارطة العالم «الأثرية»، وبذلك تكتشف خامس الحضارات القديمة في الشرق الأدنى القديم - مصر - العراق - الهند - إيران، ألا وهي حضارة دلمون الضائعة، حضارة البحرين والخليج العربي القديمة، كما يقول: «إذا كانت البحرين هي دلمون حقا، أو مقر عرش ملوك دلمون، فإنه يمكننا توقع مواجهة مدن صغيرة أو كبيرة لشعب دلمون، تمتد إلى الفترة التي نعلم أن دلمون قد عاشت فيها، وهذه الفترة الممتدة بين حكم سرجون ملك أكاد، إلى سرجون ملك آشور، أو تلك الممتدة بين 2300 ق.م إلى 700 ق.م»*.
ويرجح الآثاريون في البعثات التي عملت في البحرين، كالبعثة الدنماركية والبعثة الفرنسية والبعثة الإنجليزية والبعثة الأسترالية...، يرجحون أن مستوطنات سكنية شيدت قديما على أرض هذه الجزيرة، وتطورت تلك المستوطنات إلى التعامل التجاري وركوب البحر، ليتصل أهلها بالشعوب الأخرى، وكان ذلك جليا في التنقيبات التي أجريت في موقع «المرخ»، حيث اكتشفت أدوات حجرية يعود تاريخها إلى حضارة العبيد (4500 ق.م.) كما يعتقد الآثاريون، حيث تعتبر هذه من أهم المستوطنات التي استعمرها إنسان دلمون القديم، ويسمى هذا العصر «عصر دلمون الحجري الحديث».
وقد عثر في هذا الموقع على نماذج رائعة من الأدوات الحجرية المصنوعة من حجر الصوان، تدل على تقدم هذه الصناعة محليا، كما عثر على رؤوس لسهام متكسرة في مواقع مختلفة، حيث استعملت في صنعها مطارق حجرية لتصبح حادة، صالحة للصيد في البر والبحر.
وقبل قرن ونصف تقريبا بدأ الاهتمام بحضارة اسمها «دلمون»، بعد أن طواها الزمن لأكثر من أربعة آلاف عام وبدأ الاهتمام بالذات بعد الاكتشافات الآثارية التي تمت في العراق وإيران، خلال القرنين الماضيين، خصوصا بعد حل رموز الخط المسماري الذي كتبت به ألواح حضارة وادي الرافدين، حيث لعبت دورا كبيرا في معرفة موقع حضارة «دلمون»، والاستدلال على موقعها الذي هو موقع «البحرين الحالية».
ومن أهم الباحثين الآثاريين عن موقع «دلمون» الحقيقي «إس. إن. كريمر»، والذي أستشف من قراءتي لمعطياته حول هذه القضية - أي موقع دلمون - أنه وقع في شيء من الخلط عند تحليل الخطوط المسمارية، التي تذكر أن «دلمون المقدسة»، تقع في مكان «تشرق منه الشمس»، لذلك وجب أن يكون إلى الشرق من وادي الرافدين، أي في مكان ما «جنوب شرق إيران»، بينما تقع البحرين إلى الجنوب من العراق، ولعل الترجمة الحقيقية للألواح السومرية تذكر أن «دلمون المقدسة» تقع في مكان «تشرق فيه الشمس»، أو ربما «وسط بحر الشمس المشرقة»، وليس «تشرق منه»، والفرق اللغوي واضح (بين منه وفيه)، ومن هنا وقع الالتباس، حيث تأكد بعد ذلك لجميع الباحثين والعلماء أمثال «جيوفري بيبي» الباحث عن دلمون، و «بيتر بي. كورنوال» الذي يفند نظرية كريمر ويرد على كثير من علماء التاريخ والآثار، ويؤكد أن جزيرة البحرين في الخليج العربي هي «دلمون» الأمس التي ورد ذكرها في النصوص المسمارية للحضارات السومرية والأكدية والكلدانية والبابلية والآشورية.
والتاريخ المعروف عن نشأة دلمون هو (3000 ق.م.) على وجه التقريب، لكن المدينة الأولى لم تعرف إلا سنة (2800 ق.م.)، حيث استمرت حتى العام (1990 ق.م.) أي (810 أعوام)، ثم عرفت المدينة الثانية (2000 - 1600 ق.م.)، ثم الثالثة (1600 - 1000 ق.م.)، ثم الرابعة (1000 - 323 ق.م.)، ثم الخامسة (323 ق.م. - 450 ق.م.)، ثم بعدها عرفت بجزيرة «أوال».
ولأن الحضارة الدلمونية حضارة بحرية كما يقال، فإن التفاعل بينها وبين ما كان قائما من الحضارات آنذاك، كان من الأمور الطبيعية، بل الضرورية، إلى درجة التفاعل والتأثير والتأثر، فقد تفاعلت حضارة دلمون مع حضارة «وادي الرافدين» وحضارة «الأندوز» في وادي السند، كذلك تفاعلت مع حضارة «أم النار» بدولة الإمارات العربية المتحدة.
ولأن الدلمونيين كانوا مهرة في صناعات السفن، فقد اشتهر أسطول السفن الدلمونية، خصوصا في فترة ازدهار الحضارتين «العراقية» و«الأندوزية»، وفي العصر الذهبي لحضارة دلمون (2000 - 1600 ق.م.) انتشر الدلمونيون انتشارا واضحا في تلك الحضارات حاملين معهم صورة حضارتهم المتميزة، وثقافتهم الحضارية التي تعاملت مع جميع المعتقدات السائدة عند تلك الشعوب، مع احتفاظهم بثقافتهم ومعتقداتهم، فأصبحوا بذلك همزة وصل بين حضارتي وادي السند ووادي الرافدين.
وخلال هذا التعامل التجاري اعتمادا على السفن الدلمونية، كان لابد للدلمونيين من محطات وموانئ تقع على خطوط ملاحتها، وتنقل منها وإليها البضائع، فهناك ميناء «مسندم» على منحدرات جبال عمان، وميناء «أم النار» في أبوظبي، ثم هناك جزيرة فيلكه، التي سيطر عليها الدلمونيون كلية العام (2000 ق.م.)، بسبب أهميتها الإستراتيجية بين دلمون ووادي الرافدين.
من هنا تتضح الأهمية الإستراتيجية التي كانت الحضارة الدلمونية تتمتع بها، وخصوصا أن الدلمونيين انتهجوا نظما متطورة في حياتهم الاقتصادية والتجارية من حيث استعمال الأختام، ونظم التجارة البحرية، ونظم الموازين، ونظم التوثيق التجاري، واستخدام العلامات التجارية المسجلة، وغيرها من النظم التي تشكل مقومات حقيقية للحضارة، وهكذا كان التفاعل الحضاري بين دلمون والحضارات الأخرى واضحا، استمر مئات السنين منذ مطلع فجر الحضارات.
@ مؤرخ بحريني ووزير سابق
العدد 2309 - الأربعاء 31 ديسمبر 2008م الموافق 03 محرم 1430هـ