وصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس مسار المفاوضات بأنه وصل إلى «طريق مسدود» يعكس فعلا ذاك المأزق الذي دخلت في نفقه عملية السلام. فالوصف جاء تعقيبا على فشل المبعوث الأميركي جورج ميتشل في إقناع حكومة الثنائي المتطرف نتنياهو-ليبرمان بتجميد الاستيطان لمدة سنة حتى يتمكن من استخدام الورقة لإقناع الدول العربية البدء بالتفاوض تمهيدا للتطبيع والسلام.
مغادرة ميتشل المنطقة خائبا بعد أربعة أيام من اللقاءات والاجتماعات في تل أبيب والقاهرة وعمان ورام الله على أمل أن يعود في مطلع الخريف، لا تعني سوى تمديد الأزمة وتطويل مساراتها من دون طائل في حال أصرت الحكومة الإسرائيلية على سياسة الاحتلال والقضم والتعالي على المبادرات العربية باتجاه التسوية. وعودة ميتشل في فصل الخريف بعد أن تنهي الجمعية العامة للأمم المتحدة جلساتها وخطاباتها لا تعني بالضرورة أن المنطقة باتت على موعد يبشر بالانفتاح والتواصل.
المسألة كما يبدو مؤجلة ولن تكون مبادرات الرئيس باراك أوباما مقبولة من الجانب الإسرائيلي ويرجح أن يكون مصيرها مشابها لكل الجولات والدعوات والخرائط والاتفاقات التي وقعت تباعا من العام 1993 إلى العام 2003. المشكلة باتت واضحة وهي لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة الدامغة. «إسرائيل» لا تريد الاستقرار وترفض المقايضة وفق مبدأ «الأرض مقابل السلام». والتسوية الوحيدة التي توافق عليها تقوم على معادلة أخذ الأرض مقابل التفاوض على السلام من دون تنازل أو انسحاب.
المنطق الإسرائيلي الذي اعتمدته الحكومات أحبط حتى الآن عشرات المهمات السلمية ودعوات التفاوض منذ العام 1967. فالمنطق يقوم على مبدأ القوة وأن «إسرائيل» احتلت أجزاء من لبنان وهضبة الجولان السورية والقدس وغزة والضفة الغربية عنوة ودفعت الأموال والضحايا للاستيلاء عليها، وبالتالي من يريد استعادتها عليه الذهاب باتجاه اعتماد مبدأ القوة... وغير ذلك يصبح الأمر مجرد إضاعة للوقت.
منطق القوة الإسرائيلي يختزل كل السياسات التي تبنتها حكومات تل أبيب للرد على الاحتجاجات والاعتراضات والقرارات الدولية. «إسرائيل» تعترف بوجود قرارات صادرة عن مجلس الأمن ولكنها تعتبرها اختيارية وغير ملزمة وهي غير معنية بتطبيق فقراتها حرفيا. فالقرارات تعكس رغبة (أو أمنية) دولية ولكنها برأي تل أبيب تخالف طموحاتها ومصالحها وحقها الدنيوي في توسيع مجالها الحيوي في جغرافية الجوار ومياهه وأراضيه.
المنطق الإسرائيلي هذا يشكل مخالفة واضحة للقانون الدولي ويعطي ذريعة للجانب العربي أن يلجأ إلى اعتماد القوة واسطة للرد واسترداد الأراضي المحتلة. فالقانون الدولي من حيث المبدأ مع الطرف الفلسطيني والدول العربية. والقرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ النكبة أدرجت في كل أرقامها فقرات تؤكد حق العودة، والانسحاب من الأراضي المحتلة، ورفض الاحتلال والتوسع.
كل القرارات الدولية تعمل لمصلحة الجانب العربي من حيث المبدأ. والفقرات التي تتضمنها تلك النصوص الموافق عليها من الدول الكبرى تؤشر إلى الاحتلال والانسحاب وحق العودة والتسوية والسلام. «إسرائيل» تعرف ذلك وهي تدرك أنها الطرف الأساس المتضرر في حال تم التوافق على تطبيق القرارات لذلك أخذت تتشاطر وتناور وتلتف وتتحايل على النصوص حتى تتهرب من الاستحقاقات التي تشير إليها الفقرات.
الجانب الإسرائيلي يتحمل مسئولية الفشل. وهذه المقولة كررها أمس الأول الرئيس الفلسطيني بعد اللقاء الذي عقده مع العاهل الأردني في مدينة العقبة. كلام عباس ليس جديدا وإنما يؤكد للمرة المليون أن «إسرائيل» ليست جادة في عملية السلام وهي تراوغ وتواصل سياسة تقطيع الوقت ولن تقبل بمبدأ «الأرض مقابل السلام» مادامت تمتلك القوة القادرة على منع حصول هذا الاحتمال ميدانيا.
الآن وصل المسار إلى «طريق مسدود» كما ذكر عباس في تصريحه. والتصريح لا يغلق الباب أمام احتمال إعادة تل أبيب التفكير بسياستها خلال فصل الخريف. ولكن الرئيس الفلسطيني لا يحمل ضمانات تؤكد أن «إسرائيل» ستراجع قناعاتها بعد القمة الثلاثية في أميركا وتبدأ بتجميد توسيع المستوطنات مقابل التفاوض على الانسحاب والتطبيع والسلام. المؤشرات تجمع على أن حكومة نتنياهو-ليبرمان لن تتنازل عن مبدأ «ما أخذ بالقوة يسترد بالقوة». ومنطق «إسرائيل» الذي يستند على معادلة القوة لا مبدأ العدالة يعطي ذريعة للجانب العربي أن يتحرك على مسارات أخرى لا تتعارض في جوهرها مع القرارات الدولية. حرب أكتوبر/ تشرين الأول العام 1973جرت وقائعها تحت سقف القرار الدولي 242 الذي يعطي الدول العربية حق استخدام القوة لاستعادة أراضيها في حال رفضت «إسرائيل» القبول بمبدأ التسوية. حرب لبنان التي تحولت إلى مقاومة طويلة المدى جرت وقائعها تحت سقف القرار الدولي 425 الذي يطالب «إسرائيل» بالانسحاب ويعطي بلاد الأرز حق اللجوء إلى استخدام القوة في حال رفض الاحتلال التراجع إلى الحدود.
القرارات الدولية لا تمنع اللجوء إلى وسائل أخرى في حال أصر الجانب الإسرائيلي اعتماد منطق القوة لتبرير الاحتلال وتغطية الاستيطان. وهذا الأمر قد يشكل فرصة سياسية لإعادة قراءة الملفات ومراجعتها حتى تتوصل الدول العربية إلى بديل في حال اصطدم مشروع المبادرة التي أقرتها في قمة بيروت العام 2002.
المشكلة إذا باتت مفتوحة على خيارات أخرى، وهي يمكن أن تتطور وتتداعى في الوقت الضائع. والوقت الذي يمر بسرعة يضع فعلا القيادات العربية أمام أسئلة صعبة في حال تصدت «إسرائيل» للرغبة الأميركية وأقفلت باب التفاوض في وجه أوباما ورفضت تجميد المستوطنات وأصرت على الاحتلال ومواصلة قضم الأراضي.
الأجوبة أصعب من الأسئلة لأنها تتطلب الرد أو على الأقل بدء البحث في بدائل وبالتالي تحمل ردود الفعل التي ستنجم عن تراجع الدول العربية عن مشروع مبادرة السلام. فما هو البديل أو ما هي البدائل؟ التوافق على الحل مسألة مهمة حتى لا تستغل تل أبيب الخلافات العربية لتنفذ سياسة المسارات و«فرق تسد».
«إسرائيل» واضحة في جوابها فهي لا تقبل تجميد الاستيطان مقابل تحريك المفاوضات. والسلطة الفلسطينية أيضا واضحة في موقفها فهي لا تقبل تحريك المفاوضات قبل تجميد الاستيطان. والحل إما أن يكون تسوية بين الحدين أي إحياء المفاوضات إلى جانب استمرار توسيع المستوطنات وقضم الأراضي، وإما أن يعاد توليد معادلة خارج منطق التسوية (التفاوض السلمي) والذهاب نحو اعتماد القوة تمهيدا للتفاوض.
الخيارات البديلة صعبة جدا ولكنها ليست بعيدة عن منطق القرارات الدولية وتلك الفقرات الواضحة التي تحدد الطرف المعتدي وتطالبه بالانسحاب حتى تعقد التسوية. فالقانون الدولي يشرّع المسألة ويضعها أمام احتمالات ثلاثة: الأول التفاوض كما حصل على الجبهة المصرية بعد حرب أكتوبر في عهد الرئيس السابق أنور السادات. الثاني الكفاح المسلح كما حصل على الجبهة اللبنانية بعد عدوان 1978 وغزو 1982. والثالث لا حرب ولا تسوية ولا سلام ولا تحرير كما يحصل على الجبهة السورية منذ العام 1973.
نماذج ثلاثة موضوعة على طاولة الرئيس الفلسطيني وهي في مجموعها مطروحة في سياق «بدائل» منطقية عن مبادرة السلام العربية. النماذج تطرح بدائل ثلاثة: الاستمرار في التفاوض بضمانة دولية وكفالة أميركية، المواجهة العسكرية لتحريك الجمود كما حصل في حرب 1973 أو التحرير كما حصل في لبنان العام 2000، التجميد الدائم والاكتفاء بالمطالبة والتذكير بالحقوق من دون اللجوء إلى وسائل أخرى كما هو حاصل في الجولان.
الطريق مسدود بحسب ما قال الرئيس الفلسطيني. والبدائل أيضا موجودة. السؤال: أين تكمن المصلحة العربية في اختيار البديل المناسب؟ المسألة لا تختزل بقوة المنطق فقط وإنما بمنطق القوة أيضا. وهنا يبدأ مأزق التسوية الذي شكل إطار الأمر الواقع للاحتلال وأعطى فرصة للاستيطان. «إسرائيل» تراهن على منطق القوة وستبقى على موقفها إلى أن تحين لحظة البحث الجدي عن بديل عربي لقوة المنطق.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2572 - الإثنين 21 سبتمبر 2009م الموافق 02 شوال 1430هـ