في فلسطين، يبقى المشهد هو ذات المشهد منذ احتلالها قبل أكثر من نصف قرن:
فمن جهة هناك استمرار عدوّ الأمّة في احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتتابع مسلسل التهجير والحصار وتغيير الواقع السكّاني تغييرا جذريّا، والانقلاب على الاتّفاقات والمواثيق، والإمعان في اللعب على عامل الزمن عبر المفاوضات التي لا تخرج من تنازل حتّى تدخل في تنازل أكبر منه.
ومن جهةٍ، هناك انعدام التوازن العربي الرسمي الذي يحاول الالتفاف على انتصارات الأمّة بالمزيد من المبادرات التنازليّة، وينطلق الكثيرون فيه في السرّ بما يحرجون به أمام شعوبهم، فيعيشون المشكلة أن يُكشفوا في لهاثهم وراء التطبيع مع العدوّ، ولا يعيشون المشكلة أنّهم فقدوا التوازن في مواجهتهم لإذلال العدوّ المستمرّ لهم عبر إعلانه جهارا أنْ لا تجميد للاستيطان، بل تقليص له ولفترة محدودة، وأن القدس لا تدخل في كل حسابات المفاوضات أو ما إلى ذلك.
لقد كان لطعام الإفطار الخاص الذي تناوله رئيس حكومة العدوّ على مائدة رئيس إحدى الدول العربية مفعوله الخاص، حيث تحدث بصراحة عن خضوع الأميركيين لمنطقه وليس العكس، لينتقل مع كيانه إلى المرحلة الثانية من خطته التي تزول معها فكرة الدولة الفلسطينية من الوجود بالتهام الاستيطان لما تبقى من الضفة الغربية، لتتحوّل إلى سجن يبحث عن مقومات الحياة الاقتصادية، فيتحدث - بعدها - صندوق النقد الدولي عن نموّ في اقتصاد المسجونين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وليتباهى العدوّ بأن فكرة السلام الاقتصادي للفلسطينيين مقابل السيطرة عليهم بالاستيطان وبالحرب الأمنية المفتوحة هي الفكرة التي تفرض نفسها على الجميع، بما في ذلك عرب الاعتدال الذين يتحضّرون للقيام بخطوات تطبيعية جديدة تكون دليلا إضافيا على حُسْن نواياهم تجاه جلاّدي شعوبهم وسرّاق الأوطان؟!
إننا في يوم القدس، وأمام هذا السقوط العربي المريع، ندعو الحركات الإسلامية والوطنية إلى التداعي لاتخاذ خطوات عملية، لا لمواجهة التطبيع فحسب، بل للبحث الجديّ في كيفية إطلاق المقاومة داخل فلسطين المحتلة من جديد، وإخراجها من دائرة الحصار السياسي والأمني إلى الميدان الشعبي وفضاء المواجهة، وليكون الموقف حاسما لتغليب منطق المقاومة على منطق التفاوض الشكلي الذي يجري الإعداد له للحصول على توقيع فلسطيني نهائي بالتنازل عن الأرض والقضية، وإمضاء صك البيع بالتنكّر لحقائق التاريخ وحقوق الإنسان.
إنّ التنازل عن فلسطين والقدس سيمثل القاعدة التي تنطلق منها حركة شعبية عربية وإسلامية تعمل لتغيير الواقع بطريقة وبأخرى، كما نذكّر المرجعيات الدينية من أن السكوت والصمت أمام هذه المؤامرة الكبرى التي تتسع دائرتها وتتوالى أخطارها في كل يوم يمثل خيانة للموقع، وسقوطا فظيعا في الدنيا والآخرة، وقد قال عليّ (ع): «أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة».
إننا في يوم القدس، وبموازاة الفتوى التي أطلقناها بتحريم التطبيع بكل أشكاله وأحواله مع العدوّ الصهيوني، وبحرمة التفريط في أيّ شبر من فلسطين المحتلة، نحرّم تحريما شرعيا مطلقا التنازل عن حق العودة تحت أيّ ظرف من الظروف، وأيّ اعتبار من الاعتبارات، لأنه الحق الإنساني والتاريخي والإسلامي والمسيحي والعربي الذي لا يمكن أن يسقط بتقادم الزمن، أو ببلوغ اللعبة الدولية أقصى مجالاتها في المكر والخداع ودعم الاغتصاب.
وفي المقابل، ومن خلال رفضنا للتوطين الذي يُراد له أن يتحوّل إلى حقيقة دولية، علينا أن نتحرك كمرجعيات دينية، وكشخصيات حزبية وهيئات شعبية، للتصدّي للخطة الأميركية - الإسرائيلية التي بدأت تحصل على المزيد من التأييد العربي لتهجير الفلسطينيين وتوطينهم بعيدا عن أرضهم، في الوقت الذي نطالب فيه الدول المعنية والهيئات الرسمية على وجه الخصوص باحترام الحقوق المدنية للفلسطينيين وعدم التضييق عليهم، لأننا نعرف تماما أن الخطة المرسومة من محاور دولية استكبارية عملت على محاصرة الفلسطينيين واضطهادهم حتى في البلدان العربية لإبعادهم عن فلسطين، وتهجيرهم إلى أبعد مسافة ممكنة عن أرضهم، وعلى الجميع التصدي لهذه الخطة الظالمة والحاقدة، في كل المجالات وبكل الإمكانات المتاحة لإعادة الحق إلى أصحابه الحقيقيين والى أهله الأصليين.
وليس بعيدا من فلسطين، نلاحظ أن مشروع التمزيق والتفتيت يواصل حركته في أكثر من موقع من مواقع الأمة، وخصوصا في اليمن الجريح الذي يتفرّج الجميع على مأساته وتمزقاته، من دون أن يهبّ أحد لإخماد الفتنة الملتهبة نيرانها هناك في صعدة، كما أن حركة التمزيق تفعل فعلها في الصومال، وكذلك في السودان والعراق، إضافة إلى الهجمة الاستكبارية المتواصلة من أميركا والحلف الأطلسي في أفغانستان وباكستان.
إننا نشعر بأن الأمة مستهدفة بالكامل في كل مواقعها، وأن الأعداء يتلمّسون العناوين المذهبية أو العرقية وغيرها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السياسية الاستكبارية، ولذلك فإن الدعوة لمواجهة هؤلاء ولطرد الاحتلال لا بد أن تتلازم مع العمل لتوحيد صفوف الأمة، ونبذ كل مساعي التفرقة على أساس مذهبي أو طائفي أو سياسي وما إلى ذلك.
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ بأن الخارج عاد ليُمسك بخيوط اللعبة الداخلية، وليُدخل البلد في مسار الاصطفافات السياسية مجددا، ولتبدأ بعض رموز المشكلة بحياكة طائفية ومذهبية للأزمة السياسية، بما يعيدنا إلى خطوط التوتّر السياسي المطلّة على التوتّر المذهبي الذي يُراد للبلد أن يسلك خطوطه الموازية للخطة المرسومة على مستوى المنطقة كلها.
إننا نخشى من أن أصوات الانفعال الداخلية بالحدث السياسي المتواصل، والمتمثل بالأزمة الحكومية ومفاعيلها، ليست أصواتا لبنانية خالصة، ونخشى أن تكون جولاتها السجالية جزءا من اللعبة الدولية والإقليمية التي لم تنتهِ فصولها، والتي تتحرك فيها الأوراق المحلية لتنفيذ أو محاكاة بعض التطلّعات الخارجية، مع ما يحمله ذلك من رهانات قد تطل على مرحلة جديدة من مراحل التفتيت الداخلي الذي لن يكون لمصلحة فريق معيّن، ولن تنأى مشاكله ونتائجه السلبية عن الجميع.
إننا نقول للمتخاصمين بالعناوين المحلية، الذين يحملون عبء النصائح الدولية والإقليمية، إذا لم يكن لكم شغل إلا بمصالحكم وطموحاتكم الشخصية ومواقعكم الحزبية والسياسية والمذهبية، اتقوا الله في الناس الذين اكتووا بنيران أزماتكم السياسية، قبل أن تأكلكم نيران المصالح الدولية والإقليمية، وتأكل معكم البقية الباقية من استقرار داخلي أردتموه مؤقتا وقلقا، وحصدتم نتائجه بمزيد من الاهتزاز وخيبات الأمل المتوالية.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2570 - الجمعة 18 سبتمبر 2009م الموافق 28 رمضان 1430هـ
إسمعوا يا حكام العرب
السيد محمد حسين فضل الله من المراجع المحترمين وكثير من الشعوب المسلمة تحترمه حتى الغير مسلمة في أمريكا وغيرها هل قرأتم وسمعتم فتواه فنفذوها فهي في مصلحتكم ومصلحة شعوبكم .
حفظكم الله ذخرا
سماحة المرجع أبو سيد علي
حفظكم الله ذخرا لهذه الأمة ونفع بكم الخلق وسددكم وأثابكم وأعطاكم الصحة والعافية وختم لكم ولنا بحسن الخاتمة