نجح أبن طفيل في تمرير منظومته الفكرية في إطار قصة عادية هناك ما يحاكيها في الأساطير اليونانية والرومانية والفارسية والهندية من روايات عن تربية الحيوان للإنسان.
تبدأ القصة بخبر «حي» وهو «أبن يقظان». تزوج والده سرا من أخت رجل مهم في «جزيرة عظيمة متسعة الأكناف» (ص 121) فحملت منه ووضعت طفلا فخافت أن يفتضح أمرها فوضعته في تابوت على ساحل البحر فقذفته الأمواج إلى جزيرة مقابلة (الوقواق)، وسمعت صراخه «ظبية» فقدت ولدها فذهبت إليه وأرضعته وربته. حصلت ألفة بين الطفل وأمه وكبر وسط الظباء وأخذ يقلد نغمات وأصوات الحيوانات والطيور ويحاكي صرخاتها في الاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع (ص 129).
بلغ «حي» السابعة من عمره وأخذ ينظر إلى الحيوانات ويقارن بين تكوينه واختلافه عنها «كان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه» (ص 130). وباكتشاف اختلافه عمد إلى ستر وسطه بأوراق الشجر واتخذ العصي سلاحا ليدافع عن نفسه.
شاخت «الظبية» في هذا الوقت فبدأ «حي» يعتني بها ويطعمها إلى أن ماتت ففزع الشاب الصغير وأسف ولم يعرف سبب مصابها. شكل موت الأم، وهي ظبية في حال «حي» صدمة كبرى في حياة الشاب الصغير وأحدثت الهزة النفسية منعطفا في حياته. فموت الأم وضعه أمام مواجهة تحديات مختلفة منها الاعتماد على النفس واكتشاف الموت (فساد الجسد). ظن «حي» أن هناك عائقا أوقف أمه عن الحركة وفكر بإزالته لعلها تعود إلى الحياة فبدأ بتشريح جسمها ليعرف سبب العلة فتعرف، من خلال البحث عن سبب الموت، على أعضاء الجسد وتكوينه ووظائفه. وانتهت مهمته إلى فشل فأدرك أن الأفعال تتوقف ليس بسبب العوائق فقط بل نتيجة الموت.
إلى صدمة الموت اكتشف «حي» أن «كل عضو من الأعضاء أنما هو لفعل يختص به» (ص 138) وعرف أن الجسد كالآلة وبدأ يفكر بصاحب الجسد ومحركه وأن هناك شيئا كان في الجسد وخرج، فأخذ يفكر: ما هو؟ وغلبه الظن «أن كل واحد منها (آلات الجسد) أنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها» (ص 139).
بموت الأم حصل الانفكاك وبدأت رحلة «حي» المستقلة بحثا عن الحقيقة. وفي طريقه للبحث عن صانع الموجودات اتخذ لنفسه مكانا للسكن (موضع الإقامة) واكتشف النار ووظائفها (الطبخ والغذاء الطيب والأنس في الليل)، واكتشف أن الاحتراق بالنار يعود إلى «قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق» (ص 142).
استخدم ابن طفيل مهنته (طبيب) لشرح وجهة نظره الفلسفية من خلال تشريح الجسد وتوضيح وظائف الآلات في تحريك الحياة. فالفيلسوف استفاد من علومه الطبية للتعرف على عالم الإنسان ومجاله الطبيعي ونطاق قدرة عقله على التكيف وتصور الأشياء. فمن طريق التجربة والتأمل اكتسب «حي» في قصة ابن طفيل الفلسفية معرفة تفصيلية لوظائف الجسد واختلاف أفعال آلاته (العين، الأذن الأنف، اللسان، اللمس، الحركة، الكبد، القلب، الدماغ والأعصاب) وتوصل إلى فهم معنى الموت وخروج الروح من الجسد.
بلغ «حي» أحد وعشرين عاما وأخذت حياته تنتظم اعتمادا على نفسه فنجح في استخدام بقايا الحيوانات والأشياء والمواد. واهتدى إلى تعليم نفسه الحياكة والبناء وتخزين الطعام وتربية الخيل وركوبها واستعمالها لمطاردة سائر الأصناف الحيوانية. كذلك تعلم تحصين نفسه ضد المخاطر وإعداد سلاحه واستخدامه في حقول شتى.
في هذا الوقت كان وعي «حي» في تطور مستمر من خلال تصفح الأجسام فرأى لها أوصافا كثيرة وأفعالا مختلفة، فحكم على نفسه بالكثرة لتنوع وظائف الجسد، لكنه وجد أيضا أن الوظائف متصلة لا انفصال بينها، فهي بحكم الواحد. فالأعضاء تختلف باختلاف أفعالها، لكن الروح واحدة واختلفت لأنها انقسمت على أجسام كثيرة. فتوصل إلى تشبيه الروح بالماء، فهي تختلف باختلاف الأوعية وألوانها، فهي في حالتي تفرقها وجمعها شيء واحد (ص 149).
وتوصل نتيجة التجربة والملاحظة إلى اكتشاف التشابه والاختلاف بين عالم الحيوان وعالم النبات وعالم الإنسان. فأنواع الحيوان يحس ويتغذى ويتحرك. ويتفق الحيوان والنبات في الاغتذاء والنمو ويتفوق الحيوان بالحس والإدراك والتحرك. وبهذا التأمل وجد «أن جميعها شيء واحد في الحقيقة، وإن لحقتها الكثرة بوجه ما». وكان «بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئا واحدا» (ص 152).
بعد اكتشاف الاختلاف والتشابه بدأ «حي» يفكر بالأفعال وهل هي ذاتية الحركة أو سارية إليها من غيرها؟ ولماذا الحجر يسقط والدخان يصعد؟ فهل الأمر يعود إلى طبيعة الجسم من حيث هو جسم أم لاختلاف أوصافه؟ فهل الثقل في الحجر هو المحرك إلى أسفل أو هناك دافع آخر؟ وهل الثقل والخفة هما من الجسم أو هما لمعنى زائد على الجسمية، وتوصل إلى أن «لكل واحد منهما معنى منفرد به عن الآخر زائد على جسميته» (ص 154).
بعدها انتقل «حي» إلى سؤال آخر يتعلق بالنفس وطبيعتها واختلاف النفس الحيوانية عن النفس النباتية عن الطبيعية. فالنفس هي معنى الجسمية ومعنى آخر على الجسمية. فالأجسام من جهة هي أجسام ومن جهة هي «ذوات صور تلزم عنها خواص» (ص 158). فالاختلاف إذا صادر عن صور خاصة هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة. فالماء والنار والهواء والتراب «يستحيل بعضها إلى بعض، وأن لها شيئا واحدا تشترك فيه» (ص 160). فالحالات تتبدل لشيء واحد وصولا إلى المادة الأولى (الهيولى) وهي عارية عن الصورة جملة.
وهكذا انتقل «حي» إلى سؤال المعرفة فاكتشف بالتجربة أن المعرفة درجات أولها المحسوس الطبيعي (عالم الحس)، وثانيها تخوم العقلي (عالم النظر العقلي)، ثالثها عالم الأجسام السماوية (ما فوق الطبيعة)، ورابعها المشاهدة (الوصول إلى ذات الحق). ولاحظ «أن كل حادث لا بد له من محدث» (ص 164) فتساءل: من هو فاعل الصورة؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2569 - الخميس 17 سبتمبر 2009م الموافق 27 رمضان 1430هـ