لعل التسوية التي توصل إليها قادة هيئة الاتحاد الوطني مع حاكم البلاد حينذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في 16 مارس/ آذار 1956 بوساطة المعتمد البريطاني في الخليج السير برنارد باروز، باعتراف الحكومة بشرعية «الهيئة» بعد تغيير اسمها من الهيئة التنفيذية العليا الى هيئة الاتحاد الوطني، شكلت فرصة سانحة لتكاتف الحكم مع الهيئة للسير الحثيث نحو الاستقلال واقامة حكم ديمقراطي، وهو ما نجحت فيه الكويت بقيادة أميرها المغفور له عبدالله السالم الصباح في 28 فبراير/ شباط 1961، على رغم أن الكويت لم تكن أكثر تأهيلا من البحرين للاستقلال.
لكن الفرصة السانحة تبددت، إذ انقض الإنجليز والحكم على الهيئة مستغلين احداث الاحتجاج على العدوان الثلاثي على مصر. وهكذا اعتقل قادة الهيئة وحاكمهم بلغريف ونفتهم حكومة البحرين الى سانت هيلانة في 22 ديسمبر/ كانون الأول 1956، وحلت الهيئة وطورد العشرات من قيادتها، والأسوأ أنه جرى تشويه نضالاتها ونضالات شعب البحرين بوصفها غوغائية.
خيار الشعب الاستقلال ونظام حكم ديمقراطي
شهدت انتفاضة مارس المجيدة 1965، موجات من القمع والمطاردة بحق الحركة الوطنية، لكن عندما دقت ساعة الحقيقة عض شعب البحرين على جروحه ومعاناته، وهكذا عندما انتدبت الأمم المتحدة نائب الأمين العام للأمم المتحدة فيتوريو جو شباردي في مارس - أبريل/ نيسان 1970، للقيام بعملية تقصي الحقائق عن خيار شعب البحرين، (أما الاستقلال في دولة عربية أو الانضمام الى إيران)، لم يتردد شعب البحرين واجمع على خيار الاستقلال بعد أن أكد له أرباب الحكم أن عهد الاستقلال سيكون عهد الازدهار والمساواة والديمقراطية وأنهم سيحصلون على حقوقهم وأكثر.
وهكذا صدق شعب البحرين حكامه، وتحقق الاستقلال، فماذا حدث؟
1 - وُقع اتفاق جديد مع بريطانيا ووقع اتفاق التسهيلات العسكرية مع الولايات المتحدة مع أنه لم تكن هناك حاجة إليه بعد إسقاط الادعاءات الإيرانية.
2 - جرى الإبقاء على الضباط البريطانيين والأجانب والمستشارين في أجهزة الدولة وهم الذين أذاقوا شعب البحرين العذاب.
3 - جرى بناء أجهزة دولة الاستقلال على قاعدة الأجهزة في ظل الحماية البريطانية وتكريس سياسة بريطانيا (فرق تسد)، وكرس نظام التمييز والامتيازات.
إننا لا ننكر أن نقلة مهمة حدثت على مختلف الصعد, فقد خرجت البحرين من ظل العباءة البريطانية, إلى فضاء الاستقلال ولكن ضمن سياق معروف. كما شهدت البلاد تطورا في مختلف الصعد الاقتصادية والصحية والتعليمية والعمران والثقافة.
وإذا كان للدولة بعض الفضل فإن الفضل الأكبر يعود لشعب البحرين النشط المتفاني والمتطور المتسامح، إذ يفاخر المسئولون دائما بـ «الإنسان البحريني».
انتكاسة 1975
كان يمكن لتجربة دولة الاستقلال أن تتقدم على رغم العيوب الهيكلية في بناء الدولة الموروثة قبل الاستقلال وما بعد الاستقلال. ولنأخذ تجربة الكويت مثالا، والتي على رغم كل مثالبها فإن الاستقلال مثَّل بداية مسيرة متعرجة فيها، لكنها أكثر تقدما واستقرارا من البحرين. وعلى رغم الاجتياح والاحتلال العراقي والحرب التي شهدتها، فإنها استعادت عافيتها وهي تنعم بنظام أميري دستوري برلماني أفضل منا بكثير.
والمهم هو أن المواطن الكويتي لا يشعر بالعوز أو الخوف ويعتز بكويتيته كما أن حكامه لا يتعمدون إلحاق الأذى به أو إهانته فكرامة المواطن الكويتي عندهم خط أحمر.
من الواضح أن إصدار الدستور العام 1973، وإجراء الانتخابات النيابية وقيام المجلس الوطني هي من استحقاقات وثمرة نضال شعب البحرين منذ حركة المجلس الاستشاري في 1938. لذلك فإن الانقضاض عليها في 26 أغسطس/ آب 1975 هو انقلاب للحكم على الشعب وعلى العقد الاجتماعي غداه الاستقلال. وهل كان الحكم يتوقع أن يقبل نواب الشعب أن يضعوا أغلال قانون أمن الدولة في أعناقهم وأعناق شعبهم؟!
25 سنة عجافا
لا يستطيع عاقل أن يقنعنا بأن الخمسة والعشرين عاما التي تلت الانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة حتى الاستفتاء على الميثاق في 14 - 15 فبراير 2001, هي سنوات ازدهار وبناء على يد الدولة الرحيمة على شعبها, على رغم تجاوزاتهم وتآمرهم مع القوى الخارجية التي تريد الشر بالبحرين. إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا جاء المشروع الإصلاحي الذي توافق جلالة الملك والشعب عليه وجرى الاستفتاء على الميثاق (وثيقة المشروع الأساسية), وتقديم الضمانات من القيادة السياسية إلى التيارات الشعبية, بأنه لا انتقاص من الدستور ولا من حقوقهم؟
نعم أتيحت للبحرين عوامل ساعدتها في النهوض الاقتصادي والتقدم. وذلك يعود أولا لمهمة ونشاط وذكاء شعبها, أما أهم تلك العوامل فهي الحرب الأهلية في لبنان التي أتاحت للبحرين أن تكون المركز المالي الإقليمي, وهذا يحسب إيجابيا لصالح الدولة، في استغلال الفرصة السانحة, كما أتاحت الفورتان النفطيتان في 1973 و1979 تدفق عوائد النفط الهائلة التي وفرت للدولة مداخيل كبيرة استثمر بعضها في البنية الأساسية وغيرها, لكن الأهم هو تدفق أموال النفط الخليجية على مصارف الأفشور وإقامة مشروعات خليجية عملاقة مثل الحوض الجاف والبتروكيماويات والألمنيوم وغيرها.
هذا التطور والتقدم ليس استثناء بل شهدته جميع دول الخليج بما فيها سلطنة عمان التي كانت قبل 1970 تعيش في القرون الوسطى ولننظر إلى عمان اليوم.
وعلى عكس دول الخليج الأخرى التي لم تعانِ شعوبها من القمع ولم يعانِ مواطنوها من الخوف والمطاردة, شهدت البحرين أبشع مرحلة من القمع في ظل قانون أمن الدولة, وتسلط الأجهزة المخابراتيه والأمنية.
إنه الحصاد المر على امتداد ربع قرن؛ عشرات الشهداء, عشرات الألوف من المعتقلين وحدد الصليب الأحمر الدولي عددهم في مطلع 1996 بحدود 1200, ومئات المنفيين, وحالة رعب عمت المجتمع وشلت أوصاله.
ومن الثمار المرة لهذه المرحلة هو أن الطائفية والتمييز والفساد والامتيازات غير المشروعة, أضحت من ثوابت بناء الدولة وتسييرها, وتحولت إلى مؤسسة بعد أن كانت حالات محصورة في ظل حكم الحماية.
بعد إزاحة المجلس الوطني وغياب أية رقابة, انفلت الحكم من دون أي ضوابط. وهكذا شهدت البلاد مرحلة تميزت بما يأتي:
1 - المحاصصة في الوزارات والمناصب القيادية في الدولة والشركات العامة والمختلطة.
2 - الاستيلاء على أراضي الدولة واستخدام مواردها للمشروعات الخاصة, وهكذا أضحت الأرض مثل النفط تدر ذهبا على أرباب الحكم والمتنفذين والمقربين والموالين.
3 - استغلال مواقع النفوذ في الدولة في النشاط الاقتصادي والمالي والاستثماري, بامتيازات استثنائية, بحيث تداخل المنصب العام مع الموقع الخاص, وأضحى «البزنس» يدار من دوائر الحكومة. لذلك ظهرت طبقة جديدة من الأثرياء الجدد تزاحم البيوتات التجارية التقليدية, التي وجدت نفسها مضطرة لمشاركة هؤلاء المتنفذين من الموقع الأضعف.
4 - حتى عهد البرلمان الحالي لم يكن يُعرف كمّ من مداخيل النفط يذهب إلى الموازنة العامة، وكم يتسرب خارجها, ما شكل مصدرا مهما لثراء طبقة الحكام وشركائهم وخصوصا في ظل الفورات النفطية المتلاحقة.
انتفاضة التسعينيات صحوة الشعب
تظافرت عوامل كثيرة ومنها وعي النخبة الوطنية, لكي تتلاحم قيادات وطنية ودينية من الطائفتين ومن مختلف الاتجاهات السياسية اليسارية والمحافظة لكي يتوحد الشعب مرة أخرى كما حدث في حركة هيئة الاتحاد الوطني, وهكذا انطلقت العريضة النخبوية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1992 ثم العريضة الشعبية في نهاية 1994.
وهنا يطرح سؤال مهم على الحكم. أليس ما جاء في العريضتين هو ما تبناه جلالة الملك في مشروعه الإصلاحي والمصالحة الوطنية على رغم قصور كل منهما؟ إذا، لماذا قوبل التحرك السلمي لعودة العمل بالدستور وإعادة البرلمان وإجراء انتخابات عامة بالعنف الشديد إلى حد استخدام الطائرات المروحية في رمي المواطنين بالرصاص؟ من الذي جر البلاد إلى حلقات لا تنتهي من العنف والاضطرابات؟
ولنفترض أن بعض المتظاهرين قاموا بأعمال شغب، فهل ترد حكومة مسئولة على ذلك بعقاب شعب بأكمله وتنكل بقياداته السياسية التي سعت إلى الحوار مع الحكومة؟ هل يعقل أن تنشر قوة الدفاع ضد شعب أعزل؟ ومن الذي استعان بالقوى الخارجية؟ هل المعارضة التي أقامت اتصالات سياسية علنية وخصوصا مع البرلمانات المنتخبة والمنظمات الحقوقية, أم هي الحكومة التي صورت كل حدث احتجاجي إلى «مؤامرة» وأقحمت دول مجلس التعاون فيه؟
التحقيق المستقل هو مطلبنا
إذا كان الحكم لايزال مصرا على أن الحركة الوطنية الإسلامية في التسعينيات وقياداتها اليوم في صدارة العمل السياسي الشرعي, متآمرة مع القوى الخارجية وأنها ارتكبت جرائم بحق الدولة والوطن, فإننا نطرح أمامها خيار هيئة تحقيق مستقلة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. إن تقارير المقررين الخاصين التابعين للجنة حقوق الإنسان و «المجلس الدولي لحقوق الانسان» حاليا عن التعذيب والاعتقال التعسفي وحرية التعبير والتمييز, واضحة وما على الحكم إلا مراجعتها لاستخلاص النتائج.
إن الضحايا وأهاليهم وأحبتهم لايزالون أحياء, ووقائع العسف طوال ربع قرن ويزيد مازالت شاخصة, فليسمح الحكم بقيام هيئة تحقيق وإنصاف على غرار المغرب... وهو للعلم دولة ملكية وراثية صديقة جدا لمملكة البحرين.
إن سعر برميل النفط قارب المئة دولار, والمليارات تتدفق على خزانة الدولة, وتحول المليونيرات إلى مليارديرات, والمدن الفارهة مدن الأحلام تنبت كالفطر, لكن أوضاع غالبية الشعب تزيد بؤسا؛ البيت أصبح حلما والوظيفة أصبحت منية، في الوقت الذي يتطلب التقدم بالمشروع الإصلاحي طي صفحة الماضي والتخفيف فيما مضى وإنصاف الضحايا
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1943 - الإثنين 31 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي الحجة 1428هـ